الوصايا العشر في القرآن الكريم والعهدين
The Ten Commandments in the Quran and both Testaments a comparative study
إعداد الطالب
جواد محمد تقي أبو القاسم الخوئي
إشراف
الأستاذ الدكتور سموّ الأمير غازي بن محمد بن طلال الهاشمي
تقدّم هذه الأطروحة إستكمالاً لنيل درجة الماجستير في العقيدة من كلية الدعوة وأصول الدين جامعة العلوم الإسلامية العالمية
تشرين الأول 2010
المملكة الأردنية الهاشمية _ عمان
الحمد لله رب العالمين بارئ الخلائق أجمعين، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله
والصلاة والسلام على جميع الأنبياء والمرسلين سيما خاتمهِم وأشرفهِم محمد بن عبد الله | وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين
الإهداء
اليك يا سيدي الإمام أميرالمؤمنين علي بن ابي طالب × ابن عم الرسول محمد بن عبد الله | وصهره وحامل لواء الإسلام ورمز القيم الإنسانية والعدالة والأخلاق والى من أوصاني الله ببرّه وإكرامه والدي الشهيد وجدي الإمام السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي & اللذين تعلّمت منهما حب الدين والعلم والقيم السامية والعمل الصالح أقدم هذه البضاعة المزجاة راجياً من الله أن يتقبّلها بكرمه وفضله.
كلمة شكر وتقدير
«من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق»
أتقدم بالشكر الجزيل والثناء وخالص الإمتنان والتقدير الى رئيس جامعة العلوم الإسلامية العالمية والى عمادة وأساتذة كلية أصول الدين وكذلك الى رئيس وأساتذة قسم العقيدة والفلسفة الإسلامية الكرام لجهودهم الكبيرة التي يبذلونها في سبيل نشر الثقافة الإسلامية السمحاء في اصقاع المعمورة بين طلاب العلم والحقيقة، وأخص بالذكر الأستاذ المشرف صاحب السمو الملكي الأمير الدكتور غازي بن محمد الهاشمي لتوجيهاته القيّمة التي طالما كانت لها الأثر البالغ في إنجاح هذا البحث، والذي أبدى سعة صدر واسعة، وأخذ بيدي في كل صغيرة وكبيرة، لتنتهي هذه الرسالة الى ما انتهت اليه، كما أقدم شكري واعتزازي للأستاذ الدكتور عبد المقصود حامد عبد المقصود، وللأخوة الذين ساهموا من قريب او بعيد في إكمال هذه الرسالة وانجاحها، ولايفوتني أن أتقدم بجزيل الشكر وخالص الإمتنان لكل أساتذتي في الحوزة العلمية اللذين لهم الفضل الكبير في مسيرتي العلمية، سائلاً المولى العلي القدير العافية والعمر المديد للجميع لخدمة دينه الحنيف والبشرية جمعاء وجزاهم الله خير الجزاء، إنه قريب مجيب.
الفهرس
الفهرس 2
الخلاصة 5
Summary 6
المقــدمة 7
1- بيان الموضوع 7
2- الأهمية والضرورة 7
3- أسئلة البحث 7
4- الفرضية 8
5- سابقة البحث 8
6- منهجية البحث 8
الفصــل الأول: مباحث تمهيديــة 9
المبحث الأول: تعريف الوصايا العشر 10
الوصية لغةً 10
الوصايا العشر اصطلاحاً 10
المبحث الثاني: تعريف القرآن الكريم 13
المبحث الثالث: التعريف بالعهدين 15
اولاً: الوحي والإلهام الكتابي بمنظور العهدين 15
ثانياً: أسفار الكتاب المقدس 17
الفصل الثاني: الوصايا العشر في العهد القديم 25
تمهيد 26
المبحث الأول: ظروف إنزال الوصايا العشر 27
اولاً: مكان وزمان نزول الوصايا العشر 27
ثانياً: كيفية نزول الوصايا 30
المبحث الثاني: نظرة إجمالية للوصايا العشر 33
الوصية الأولى: لا يكن لك آلهة أخرى أمامي 34
الوصية الثانية: لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة مما في السماء من فوق وما في الارض من تحت وما في الماء من تحت الأرض 36
الوصية الثالثة: لا تنطق بإسم الرب إلهك باطلاً لأن الرب لا يبرئ من نطق باسمه باطلاً 37
الوصية الرابعة: أذكر يوم السبت لتقدسه 38
الوصية الخامسة: إكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب الهك 39
الوصية السادسة: لا تقتل 40
الوصية السابعة: لا تزنِ 41
الوصية الثامنة: لا تسرق 42
الوصية التاسعة: لا تشهد على قريبك شهادة زور 43
الوصية العاشرة: لا تشته بيت قريبك ولا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئا مما لقريبك 44
المبحث الثالث: مقارنة بين سفري الخروج والتثنية 46
الفصل الثالث: الوصايا العشر في العهد الجديد 47
تمهيد 48
المبحث الأول: نظرة المسيحية للشريعة اليهودية والوصايا العشر 49
المبحث الثاني: معالجة العهد الجديد للوصايا العشر 56
الوصيّة الأولى: أنا هو الربّ إلهك لا يكنْ لك إله غيري 58
الوصية الثانية: لا تحلِفْ باسم الرب الهك باطلاً 60
الوصية الثالثة: احفظْ يومَ الربّ 61
الوصيه الرابعة: أكرم أباك وأمك 63
الوصية الخامسة: لا تقتـل 64
الوصية السادسة: لا تزن 65
الوصيه السابعة: لا تسـرق 66
الوصية الثامنة: لا تشهد بالزور 67
الوصية التاسعة: لا تشتهِ امرأة قريبك 69
الوصية العاشرة: لا تشتهي بيت قريبك 69
المبحث الثالث: مقارنة بين العهد القديم والجديد 72
الفصل الرابع: الوصايا العشر في القرآن 74
تمهيــد 75
المبحث الأول: الدائرة الأخلاقية القرآنية 77
المبحث الثاني: الوصية العقدية (النهي عن الشرك بالله) 81
المبحث الثالث: الوصايا السلوكية 86
المبحث الرابع: الوصايا الروحية 103
المبحث الخامس: مقارنة بين القرآن والعهدين 105
الخاتمة 106
مصادر البحث 108
الخلاصة
تناولنا في هذا البحث أهم النقاط الأساسية المشتركة بين القرآن الكريم والعهدين (القديم والجديد) بخصوص الوصايا العشر التي ذكرت في ألواح موسى ×، وأشرنا إبتداءً الى البحوث التصورية للموضوع من خلال تعريف أهم المفاهيم المرتبطة بعنوان البحث ومن ثم قدمنا نبذة مختصرة عن العهدين القديم والجديد والقرآن الكريم من دون الاشارة الى التفاصيل.
وأستعرضنا بعد ذلك الوصايا العشر في اليهودية من خلال البحث في كيفية نزولها وزمانه، والمكان الذي نزلت فيه، والألواح التي كتبت فيها، وكذلك تطرقنا الى الإختلاف بين سفر الخروج والتثنية من أسفار العهد القديم بخصوص نص هذه الوصايا والتقديم والتأخير والأضافة والحذف فيهما، وقدمنا تفسيراً مختصراً لتلك الوصايا من وجهة نظر يهودية.
وتناولنا بالبحث ايضاً الوصايا العشر من وجهة نظر مسيحية، وأثبتنا من خلال دراسة نصوص وآيات من العهد الجديد ان المسيح وامه ومنذ زمن ولادته وحتى بعثته كانا ملتزمين بالشريعة اليهودية من قبيل ختان المسيح في اليوم الثامن، وكذلك تقديم القرابين للولد البكر وفق الشريعة اليهودية، وأيضاً حجهم للهيكل وما الى ذلك، ومن ثم تتبعنا بالبحث شريعة المسيح وهل هي ناسخة لشريعة موسى × ام مكملة لها؟ واوضحنا ان المسيح صرح بما لا يقبل الشك بانه لم يأت لينسخ الشريعة ولكنه جاء ليكمل ما جاء به موسى ×، وأشرنا أيضاً الى موقف المسيح من الوصايا العشر، وانه قد استشهد بها في تعاليمه ومواعظه، وكذلك كيفية فهم الكنيسة المسيحية لتلك الوصايا والتغييرات التي ادخلت عليها من قبل الكنيسة، وطريقة حل بعض الإشكالات لبعض الوصايا التي غيرت اليوم، كحلول يوم الأحد مثلا عطلة دينية في المسيحية بدلاً من السبت اليهودي الوارد في نص الوصايا.
وتقصينا البحث عن الوصايا العشر في القرآن الكريم والتي ذكرت في سور متعددة فيه، ولا سيما في سورة الأنعام التي لخصت جميع ما أراد الله ان يوصيه للبشر في وحيه المتكامل، وألقينا الضوء على النسخة القرآنية من الوصايا، فبدأنا بتحديد الدائرة الأخلاقية القرآنية في بيان تلك الوصايا ومعرفة نسبتها بالنسخة التوراتية والإنجيلية منها، وبعد ذلك تطرقنا الى آراء المفسرين الإسلاميين في شرح وتفصيل للوصايا القرآنية ضمن ثلاث دوائر: عقدية، سلوكية، روحية.
وفي الخاتمة أشرنا الى أهم نقاط الإشتراك والإختلاف بين القرآن الكريم والعهد القديم والجديد بخصوص الوصايا العشر من خلال ما استعرضناه في بحثنا.
Summary
This research summarises the main points of agreement between the Noble Quran and both the Old and New Testaments with regards to the Ten Commandments revealed to Moses (s). I introduced the subject matter by highlighting the main lexicons and terms of reference to our current research; I then summarised briefly the main contours of the Old and New Testaments, as well as the Noble Quran.
I then delved into the historicity of the Ten Commandments in the Jewish tradition by analysing contexts, time, and mode of revelation. I also set out to explore some of the commentaries in Jewish scholastics by examining classical and modern era scholarship.
I also set out to examine the Ten Commandments from a Christian perspective, I relied on the fact that Christianity is an offshoot of the Jewish faith, since Jesus (s) and his mother, Mary (s), were adherents of the Mosaic law; I set out my case by carefully studying important canons and scripture that uphold the view of Jesus being circumcised as per Judaic law, as well as other Torah ــ based practices. I explicated the repetitive statements by Jesus (s) that he will not abrogate the Law of Moses (s), in fact he upheld the Ten Commandments amongst other homilies uttered by Moses (s).
I also set out to explore the basis of the Ten Commandments in the Quran, which in numerous verses summarized the quintessential message one finds in the Ten Commandments; the opinions of Quranic commentators with reference to the Ten Commandments were further analsyed and can be broken down into three main categories: (i) Doctrinal; (ii) Ethical, and (iii) Mystical and Spiritual.
I concluded my research by stressing points of agreement and disagreement between the Quran and the other two traditions rooted in the Old and New Testaments.
المقــدمة
مما لا شك فيه ان الدين يقوم على ركائز وأُسس ثلاثة: العقيدة، الشريعة، الأخلاق. ففي الأمور العقدية هناك ضروريات متفق عليها بين الرسالات الإلهية كالتوحيد والعدل والمعاد، وفي الشريعة توجد الكثير من الأركان العامة المشتركة بينها، كالصلاة والزكاة والصيام والحج، أما الأخلاق فيمكن القول إنها واحدة ومشتركة بين الجميع، مع الاختلاف في الرؤى والعمق، لذا يمكن اعتبار العقائد الرئيسة والقيم الاخلاقية من المسائل المشتركة بين الشرائع الالهية كلها، وان كان هناك اختلاف فيما بينها في بعض الموارد الجزئية أحياناً، لكنها تكاد تتفق في الخطوط العامة لها، وواحدة من تلك الخطوط العريضة العامة التي يمكن اعتبارها قاسماً مشتركاً بين الأديان السماوية الثلاثة الرئيسة (اليهودية – المسيحية – الاسلام) هي الوصايا العشر.
وتمتاز هذه الوصايا بكونها وصايا ايمانية عقدية وأخلاقية عالية المضامين، كالتوحيد لله تعالى وعدم الشرك به وإطاعة الوالدين والنهي عن القتل والزنا والسرقة وما الى ذلك، ومن هنا اخترنا هذه الوصايا العشر للبحث فيها بشكل مقارن في الأديان الثلاثة، لما تشكله هذه الوصايا من قيم إنسانية متعالية وكونها تمثل روح وأساس الأديان، وهي بمثابة قوانين يستند عليها القوام البشري لتنظيم الشأن الاجتماعي العام مع غض النظر عن الإنتماء الديني الخاص، وكذلك تعتبر نقطة التقاء مهمة واساسية للتقارب بين الرسالات الإلهية.
يعد هذا البحث من الأهمية بمكان، حيث يمكن ان يكون مصداقاً بارزاً للقاسم المشترك بين أتباع الرسالات الإبراهيمية بشكل خاص وغيرها بشكل عام، فالحوار بين الأديان في زماننا الحاضر يعتبر ضرورة ملحة، لأن مصالحنا الإجتماعية واحدة فما يصيب أحدنا يصيب الآخر قهراً سلباً او إيجاباً، وايضا لتقريب وجهات النظر ومد جسور التآخي بين اتباع الديانات لنتمكن من العيش في هذا العالم الرحب بمحبة ووئام، ولتبديل ثقافة العنف والحقد والكراهية الى ثقافة التعايش والتسامح، ومن متطلبات هذا الحوار هو الإنفتاح على الاخر، وفهم اعتقاداته واصوله بكل علمية وانصاف واحترام ونزاهة، وأننا باختيارنا لهذا الموضوع بغينا الوصول للهدف السامي الذي أشرنا اليه، واعتقد انه كلما ازدادت القواسم المشتركة كلما اضمحلت الفوارق وزالت الخلافات، فأتباع الرسالات التوحيدية الإبراهيمية تجمعهم مشتركات كثيرة، ومنها موضوع بحثنا هذا.
هناك سؤال أساسي و أسئلة فرعية يمكن طرحها في هذا البحث منها:
السؤال الأساسي: ماهي الوصايا العشر في اليهودية وماهو موقف المسيحية والاسلام منها؟
الاسئلة الفرعية:
تعتبر الوصايا العشر نقطة التقاء أساسية ومهمة بين الرسالات الإلهية الثلاثة، وتكاد تتفق في خطوطها العامة وفي اغلب جزئياتها، ولكن هناك اختلاف ايضا في بيانها وعمقها من دين لآخر.
هناك دراسات كثيرة للوصايا العشر في اليهودية والمسيحية والإسلام كل على حدة، وقد اشارت اليها التفاسير للكتاب المقدس والقرآن الكريم اجمالاً، بالاضافة الى ذلك فقد تناول بعض العلماء والمفكرين الوصايا العشر بالبحث والمطالعة وقدمت بعض الدراسات بهذا الخصوص مثل كتاب (العقائد المشتركة بين اليهود والنصارى وموقف الاسلام منها) للكاتب خالد رحال محمد الصلاح، وكذلك كتاب (الاخلاق في الاديان السماوية) للكاتب السيد ابو ضيف المدني، وايضا كتاب (الوصايا العشر في اليهودية دراسة مقارنة في المسيحية والاسلام) للكاتب الدكتور رشاد عبد الله الشامي وغيرها من الدراسات، ولكن من يطالع هذه الدراسات يجدها ناقصة في دراستها لهذه الوصايا احيانا، واحيانا اخرى تتناول هذه الوصايا من جهة وزاوية معينة من دون البحث في كل جوانب الموضوع والنظر اليها باعتبارها قاسماً مشتركاً يمكن من خلاله التواصل بينها، ولهذا اعتقد ان هذا البحث هو جديد في هذا المجال لانه يتناول الوصايا العشر من جوانب متعددة ويكمل الناقص من الدراسات السابقة.
يقوم البحث على النهج الإستنباطي التحليلي الذي تستفاد فيه النتيجة من المقدمات ومن المصادر الموثوقة عند أتباع نفس الدين، وكذلك على المنهج الاستقرائي الذي من خلاله يتم استقراء جميع النصوص المرتبطة بالموضوع، ومن المنهج الترجيحي ايضا باعتبار البحث دراسة مقارنة.
الفصــل الأول
مباحث تمهيديــة
المبحث الأول: تعريف الوصايا العشر
المبحث الثاني: تعريف القرآن الكريم
المبحث الثالث: تعريف بالعهدين
المبحث الأول: تعريف الوصايا العشر
قبل الدخول في البحث نرى لزاماً تعريف بعض المفاهيم المرتبطة بالبحث من قبيل مفهوم الوصية بصورة عامة والوصايا العشر بصورة خاصة وهذا ما سنشير اليه في هذا المبحث، وفي المبحث الثاني سنقدم تعريفاً مختصراً للقرآن وفي المبحث الثالث سنتعرف على العهدين بشكل مختصر.
الوصية لغةً
ذهب علماء اللغة الى أن الوصية في اللغة تعني العهد، فالوصية تعني ما اوصيت به، وسميت وصية لاتصالها بأمر الميت، ومن العرب من لا يثني الوصي ولا يجمعه، واوصى الرجل ووصاه: عهد إليه، واوصيت له بشيء واوصيت إليه إذا جعلته وصيك، والوصاية بالكسر والفتح، وتواصى القوم، أي اوصى بعضهم بعضاً.
الوصايا العشر اصطلاحاً
الوصايا العشر هي الوصايا التي عهد بها الله تعالى الى نبيه الكليم موسى × على جبل سيناء، واعتبرها البعض قلب الشريعة الموسوية، وقد ذكرت الكلمات العشر في سفرين من أسفار توراة موسى الخمسة (سفر الخروج 20: 1 ــ 17 و سفرالتثنية 5: 6 ــ 21)، وتدعى أيضاً كلمات العهد، ولوحي الشهادة، وقد اشارت التوراة الى ان الوصايا كتبت على لوحي حجر. واعتبرت من مميزات الشعب العبراني، وهي تنطوي على حكمة اجتماعية روحية، وعلى توجيهات وإرشادات للحياة الصالحة، وهي موجز لكثير من تعاليم العهد القديم. ويجب التمييز بينها وبين الوصايا الطقسية او الشعائرية المذكورة في التوراة التي تبلغ المئات، وقد صيغت الوصايا الواردة في شكلين الاول (سفر الخروج 20: 1 ــ 17) والشكل الثاني (سفر التثنية 5: 6 ــ 21). وتتباين الروايتان في إشارتهما إلى حفظ يوم السبت، فبينما تشدد الرواية في سفر التثنية على ضرورة استراحة العمال والبهائم اعترافاً بخروج الشعب من أرض العبودية، تشدد الرواية الواردة في سفر الخروج على تقديس يوم الرب بالانقطاع عن العمل والاستراحة، لأن الله خلق العالم في ستة أيام واستراح في اليوم السابع. والوصايا كلها خلا وصيتين ــ وهما الوصيتان اللتان توصيان بحفظ السبت وإكرام الوالدين ــ هي وصايا سلبية، والوصايا الوحيدة التي لها وعد هي الوصية الخامسة، وهذا ما سنتناوله بالتفصيل في الفصل الثاني من البحث.
وتسمى الوصايا العشر بالشريعة الأدبية، ولها مكانة بارزة في الكتاب المقدس، وذلك للأسباب الآتية:
1ــ إن هذه الوصايا هي وحدها التي كتبها الله كما تذكر ذلك التوراة حيث تذكر قول الله لموسى ×: «اصعد الى الجبل واقم هنا حتى اعطيك لوحي الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعليمهم»، بل في آية اخرى تصرح بالقول: «ولما انتهى الله من مخاطبة موسى على جبل سيناء، سلّمه لوحي الشهادة، لوحين من حجر مكتوبين باصبع الله»، وفي نص آخر: «ثم أدار موسى وجهه ونزل من الجبل ولوحا الشهادة في يده، لوحان مكتوبان على وجهيهما... واللوحان هما صنع الله، والكتابة هي كتابة الله منقوشة في اللوحين».
2ــ إنها هي وحدها التي وضعت في تابوت العهد بامر الله تعالى باعتبارها أساس العهد بين الله وبني إسرائيل، فقد جاء في سفر التثنية على لسان موسى ×: «في ذلك الوقت قال لي الرب: انحت لك لوحين من حجر كالاولين ... واصنع تابوتاً من خشب،... وضعهما في التابوت» وايضاً هذا ما ذكر في سفر الملوك الاول عندما اراد سليمان أن يصعد تابوت العهد من مدينة داود الى صهيون حيث جاء: «ولم يكن في التابوت الاّ لوحا الحجر اللذان وضعهما فيه موسى في حوريب حيث عاهد الرب بني إسرائيل عند خروجهم من ارض مصر».
3ــ يبدو أن هذا الجزء من الشريعة هو المقصود في الأقوال التي تعبر عن مسرة المؤمنين بناموس الله كما جاء في المزامير حيث جاء: «طوبى للكاملين في سلوكهم ... انت اوصيت باوامرك كي تحفظ حفظاً كاملا ً...»
ومع ما لهذه الوصايا والألواح التي كتبت عليها أهمية بالغة، إلّا أنّه عندما نزل موسى من الجبل بعد أربعين يوماً قضاها في حضرة الرب، وعاد إلى بني اسرائيل، وجد الشعب يعبدون العجل، فاستشاط غضباً، وفي حالة الغضب كسر اللوحين، ولكنه بعد أن عاقب الشعب المتمرد على الله، صعد مرة أخرى إلى الجبل بناء على أمر الرب، وعاد حاملاً لوحين جديدين كتبت عليهما وصايا الرب، وتلاها على الشعب والبرقع على وجهه، ووضعهما في "تابوت العهد".
وقد جرت العادة أن تقسم الوصايا، باعتبار الموضوع، إلى لوحين، يحتوي اولهما على أربع وصايا، والثاني على ست، ولكن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية ومعها الكنيسة اللوثرية، حذتا حذو اوغسطين في تقسيم الوصايا، وجعلتا الوصايا الثلاثة الاولى بعد دمج الوصية الاولى والثانية في وصية واحدة في اللوح الأول، والوصايا السبع الأخيرة في اللوح الثاني، بعد تقسيم الوصية العاشرة إلى وصيتين "لا تشته بيت قريبك" و "تشته امرأة قريبك"، وظاهر هذا التقسيم يتماشى مع طبيعة الوصايا، فالوصايا الثلاث الاولى، التي يتكون منها اللوح الاول، تختص بواجبات الإنسان نحو الله، والسبع الأخيرة بواجبات الإنسان تجاه الإنسان.
المبحث الثاني: تعريف القرآن الكريم
إن القرآن الكريم بوصفه كتاباً سماوياً فهو غني عن التعريف، ولكن المنهجية العلمية تقتضي التعريف بالمصطلحات الرئيسة للبحث قبل البدء به؛ وعليه نقدم تعريفاً مختصراً عن القرآن لغةً واصطلاحاً.
التعريف اللغوي:
هناك ثلاثة اقوال رئيسة بخصوص اشتقاق كلمة القرآن:
اولاً: القرآن من «ق – ر – ن» لأنه تقترن فيه مجموعة من الحروف والكلمات والآيات والسور، او لأنه كل آية فيه قرينة على صدق أخواتها من الآيات الأخر، او لانه قرن في طياته كل ما كانت تحتويه الكتب السماوية السابقة.
ثانياً: القرآن من «ق – ر – أ» على صيغة فعلان بمعنى المقروء او ما يُقرأ لانه كتاب انزل لتقرأه الناس او من القرء بمعنى الجمع لانه يحتوي على آيات وسور قد جمعت ودوّنت بين الدفتين في المصحف الشريف.
ثالثاً: القرآن اسم معرّب من اصل سرياني وهو باللغة السريانية بمعنى قراءة كتب الأدعية والتراتيل الدينية وقد دخل الى اللغة العربية، واستعمله القرآن الكريم في آياته والمسلمون تبعا لذلك لتسمية ما قد انزل الله على نبيه من آيات وبينات.
الإشكالية الأساسية بخصوص كلمة القرآن هي أن وزن فعئان بناء على القول الاول غريب لاتعرفه ولاتستعلمه العرب، كما أن وزن فعلان لا يأتي بمعنى مفعول في كلام العرب فكلا القولين ضعيفان لا يستندان الى دليل لغوي قوي؛ ولهذا السبب اتجه عدد من اللغويين الى اعتبار الكلمة اسم علم غير مرتبط باشتقاقه اللغوي قد وضعه الله تبارك وتعالى لكتابه المنزل؛ هذا اذا لم نقبل بقول الفيلوجيين بأن الكلمة معربة ذات اصول سريانية قديمة قد دخلت العربية قبل الاسلام واستخدمت تدريجياً لتسمية كتاب الله المنزل على نبيه محمد |.
التعريف الأصطلاحي:
لو اغضضنا الطرف عن الاختلاف التاريخي حول بعض المسائل المتعلقة بكتاب الله، فبإمكاننا أن نعرّف القرآن حسب ما عرفه الجرجاني في كتابه التعريفات بقوله: «هو المنزل على الرسول في المصاحف المنقول عنه نقلاً متواتراً بلا شبهة.» وهذا ما اتفق عليه المسلمون كافة من كل مذاهب وطوائف الاسلام، وكاد أن يكون أحد أهم ضروريات الدين الاسلامي الشريف. ويمكن تعريفه ايضاً: هو اللفظ العربي المنزل على رسول الله | يقظةً المنقول الينا تواتراً الكائن بين دفتي المصحف.
اما خصائص القرآن الكريم، فهناك بعض الاوصاف والخصائص اختص بها القرآن من دون سائر الكتب السماوية، وأهمها:
اولاً: القرآن هو كلام الله لفظاً ومعنى نزل على محمد | بدون حدوث اي تغيير فيه من قبل أي شخص طوال السنين كلها.
ثانياً: أنه خال من التناقض والاختلاف ويصدق بعضه بعضاً، والكل مجموع متناسق من حيث المعاني والافكار والمفاهيم.
ثالثاً: القرآن كلام معجز ودليل على صحة نبوة خاتم الانبياء وهو شاهد حي لا يكذبه احد من السابقين واللاحقين.
رابعاً: القرآن كتاب سماوي يشتمل على شريعة إلهية متكاملة تشمل جميع ما يحتاجه البشر للهداية في حياته الدنيا في مستوى الفرد والمجتمع.
خامساً: القرآن مصانٍ من التحريف زيادة ونقصاً وما هو موجود بين ايدينا بعينه كلام الله المنزل على نبيه محمد | بدون اي زيادة ونقصان، وهو قد وضع ترتيب السور والآيات بأمر من الله تعالى، ووعد بحفظه: {إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون} بخلاف التوراة والإنجيل.
المبحث الثالث: التعريف بالعهدين
سنتناول في هذا المبحث وبشكل مختصر التعريف بالكتاب بالمقدس بعهديه كمقدمة ومدخل لدراسة الوصايا العشر، باعتباره الأساس الذي يعتمد عليه اليهود والنصارى في اثبات عقائدهم وتعاليم دينهم، وتجدر الاشارة الى أن هذه الأناجيل تعتبر في احسن حالاتها كالأحاديث القدسية المروية عن النبي | بالمعنى، وايضا فان النسخ الأصلية للأناجيل غير موجودة حالياً بل هي نسخ عن نسخ، وهنا نشير الى بعض المسائل المرتبطة بالكتاب المقدس ومنها:
اولاً: الوحي والإلهام الكتابي بمنظور العهدين
لا بد للدخول إلى معرفة الكتاب المقدس من ذكر مقدمة مهمة وهي ضرورة معرفة الوحي الكتابي او الالهام الكتابي وتمييزه عن الالهام النبوي، فالوحي الإلهي هو عبارة عن إلهام من قبل الله سبحانه لأشخاص معدودين، وهو يقوم بإلقاء الحقائق وما يريده الله سبحانه إليهم، وبعبارة اخرى فإن الوحي هو العمل الإلهي الذي يكشف لنا عن الحقائق الفوق الطبيعية التي أراد الله أن يكشفها لنا.
ويمكن تقسيم الوحي والالهام الى قسمين هما:
1ــ الإلهام النبوي: وهو الإلهام الذي يكون دور الله سبحانه فيه رئيسياً وتقريباً يضمحل أي دور فاعل للنبي الموحى إليه، ففي الالهام النبوي الله يوجه كلامه إلى النبي بصيغة الأمر، بحيث إن النبي لا يقوم إلاّ بدور المستلم والمسلّم للرسالة، فدور الله يبدو هنا في أقصى ذروته، ولا يترك للنبي إلاّ جزءاً يسيراً، والنبي يبدو هنا كأداة طيعة وأمينة، ويتكلم بأسم الرب، وينقل بكل أمانة الرسالة التي اوحاها الله اليه.
2ــ الإلهام الكتابي: اما في الإلهام الكتابي فالأمر مختلف تماماً، فكان الله والكاتب يتقاسمان الدور في كتابة الكتاب المقدس، فبالرغم من أن الحقائق هي إلهام من الله، ولكن الكاتب يبقى محتفظاً بشخصيته المستقلة، فهو يدون ما يريده الله ولكن بالأسلوب الذي يختاره والذي يراه مناسباً، وهذا يشبه عمل الإنسان والآلة التي يستخدمها، فعلماء الكتاب المقدس يؤكدون أن الإنسان الملهم يبقى محتفظاً بإستقلاله كشخص عامل وحر، فليس هو مثل القلم الذي تديره أصابع الكاتب، إن الله في الواقع يحث الإنسان الملهم على الكتابة دون أن يحطم ويمحي شخصيته بسبب ذلك، بل بالعكس انه يحثه ويحمسه أي أن روح الله يقود الإنسان الملهم بقوته الفعالة وبطريقته إلى تفكير وقول وتدوين ما يريده له وكما يريده.
فكاتب الوحي الالهي يتسلم فقط النور الفوطبيعي الذي يساعده على الحكم باليقين الالهي ذاته على كل ما يوافق وينسب تأليف كتبه، وبذلك يتحقق انتاجه بحرية تامة لدرجة أنه يمكن ألا يعي بأن هناك يداً فائقة لقدرة قد قادته وارشدته. وهذا الفهم للوحي الكتابي لدى علماء الكتاب المقدس يختلف تماماً عن الوحي الكتابي لدى المسلمين، وهذه نقطة ومسألة مهمة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار.
وسؤال يمكن أن يطرح هنا وفقاً لهذا الفهم للوحي الكتابي وهو إذا كان تأليف الكتاب المقدس من عمل الله والإنسان معاً، ونسبته متساوية تقريباً، والله تعالى لا يخطأ ولا يزل، ولكن الإنسان يمكن أن يخطأ او يزل سهواً او عمداً فما هو الدليل على كون الكاتب الملهم (الذي يحتفظ بشخصيته واستقلاليته) لم يخطأ فيما كتبه كله او بعضه؟
ويجيبون على هذا السؤال بالقول: إن الله يحفظ الكاتب الملهم من تدوين وتعليم الباطل، ولهذا السبب فالالهام تصاحبه هبة «العصمة من الخطأ» ليس عند المؤرخ الملهم فحسب، بل في نتيجة مجمل الكتاب أيضاً، فجميع أقوال الكتاب الملهمين او مؤلفي السير المقدسة يجب اعتبارها أقوال الروح القدس، ولا بد من التصريح بأن أسفار الكتاب المقدس تعلم بحزم وأمانة وبدون خطأ الحقيقة التي أراد الله من أجل خلاصنا أن يراها مدونة في الكتب المقدسة.
لذا فهم يعتقدون «أن الله اوحى بمحتويات الكتاب المقدس في لغاته الأصلية أي في العبرية والآرامية واليونانية، وحفظه لنا بدون تغيير وتحوير على مر العصور والأجيال. والناسخون أنجزوا نسخهم بدقة فائقة، كما قام المترجمون بعملهم بكل أمانة فعندما نقرأ الكتاب المقدس بالعربية مثلاً فإننا إنما نقرأ كلام الله كما أعطي للأنبياء والرسل، هذا هو الموقف من سلطة الكتاب المقدس الذي سجل في العقائد الرسمية لعصر الإصلاح.»
ويضيفون «إن سلطة الكتاب المقدس الذي يجب أن نؤمن به وأن نطيعه، لا تتعلق بشهادة أي إنسان او كنيسة بل تُستمد بمجملها من الله نفسه ــ الذي هو الحق بالذات ــ الذي هو المؤلف، ولذلك يجب أن يقبل لأنه كلام الله، إن العهدين القديم والجديد قد أُعطيا مباشرة بوحي من الله وقد حفظا نقيين في كل الأجيال بواسطة العناية الإلهية.»
ثانياً: أسفار الكتاب المقدس
كما هو معلوم فإن الكتاب المقدس ينقسم الى قسمين: العهد القديم والعهد الجديد، ودوّنت أغلب أسفار العهد القديم باللغة العبرانية، وهي لغة سامية تشبه العربية من وجوه كثيرة، وهناك بعض الفصول من العهد القديم كتبت باللغة الآرامية وهي لغة شبيهة بالعبرانية.
وأما العهد الجديد فانه كتب باللغة اليونانية التي كانت شائعة الاستعمال بين اليهود متأثرة بالثقافة اليونانية، وتسمى يونانية العهد الجديد «بالكوني» وهي اللغة العامية ممزوجة ببعض الإصطلاحات العبرانية، ولذلك كانت تسمى باليونانية «الشائعة»، والتي تختلف عن اليونانية الفصحى.
إن أقدم النصوص الموجودة حالياً للكتاب المقدس تعود الى قرون بعيدة جداً عن زمان كتابتها، فكل علماء الكتاب المقدس يجمعون على أنه لم يصل إلينا شيء من النسخ الأصلية، بل كل ما هو الآن بين أيدينا هو نسخ مأخوذة عن نسخ من ذلك الأصل.
وقد تم تقسيم أسفار العهدين الى فصول في بادىء الأمر للقراءة في اوقات معينة، فقد قسم اليهود بعض الأسفار (الشريعة) الى 54 فصلاً لكي يسهلّوا القراءة، وأول من قام بتقسيم الكتاب المقدس الى اصحاحات وآيات هو ستيفن لانغتون للإهتداء بسهولة الى فقرات العهدين وذلك سنة 1226 م وقد تبنّت جميع دور النشر لهذا التقسيم في طباعتها للكتاب المقدس، وأما كيفية الدلالة على الآيات في الكتاب المقدس فهي على النحو التالي:
يذكر الكتاب او السفر اولاً باختصاره، ويدلّ الرقم الأول على الفصل، ويدلّ الرقم الثاني المنفصل عن الاول بخط مائل على الآية مثلاً: «تك 3/6» فيعني: سفر التكوين، الفصل الثالث، الآية السادسة وهكذا، واحياناً يتم وضع خط افقي صغير معناه الجمع بين عدة فصول او عدة آيات، مثلاً: «تك 3 ـ 5» يعني سفر التكوين، الفصل الثالث الى الخامس، او مثلاً: «تك 3/4 ـ 8» يعني: سفر التكوين، الفصل الثالث، الآيات من 4 الى 8. وهذا التقطيع لأسفار العهدين هي المتبعة حالياً في جميع المتون والكتب والدراسات الدينية اليهودية والمسيحية على السواء لغرض الارجاع الى آيات العهد القديم والجديد.
وبعد هذا العرض الموجز لبعض جوانب الكتاب المقدس نشير الى هذين العهدين في دراسة مختصرة:
1 ـ العهد القديم:
يظهر أن تدوين تاريخ العبرانيين بدأ منذ عهد موسى وداود وسليمان عليهم السلام، وظلوا يقرأونه وينقحونه في حلقات المتعلمين والكهنة فتشكل هذا الأثر التاريخي والأدبي، فهذا هو تاريخ كتابة (العهد القديم) والمراحل التي طواها هذا الكتاب وما تبعها من تطورات فكرية ودينية، حيث بدأ مع موسى × وتعمّق هذا الفكر مع الأنبياء، وتكيّف مع الفلاسفة ومعلمي الحكمة، فتشكل هذا الكتاب الذي يعتبره علماء الكتاب بأنه كتاب وحي سماوي، إذ انهم يقولون أن في هذه الأسفار كلمة الله سبحانه كما دوّنت بلسان البشر، فأن الله لم يستعجل شعبه ولم يدفعه بقوة، بل سار معه على مهل وأمسك بيده كما يمسك الأب بيد ابنه.
وأما تحديد أسفار العهد القديم فانه لم يتم إلاّ بعد بعثة السيد المسيح × وإن كان منتشراً قبل ذلك وخصوصاً الترجمة اليونانية السبعينية، ولكن كان هناك إختلاف في عدد الأسفار المقدّسة، فقد إجتمع روؤساء اليهود بقيادة يوحنا بن زكاي على شاطئ البحر القريب من يافا حوالي سنة 90م، وذلك للوقوف بوجه التهديدات التي كانت تهدد كيان ووجود الأمة اليهودية وخصوصاً بعد ظهور الدين المسيحي الجديد، ولتحديد الأسفار القانونية (المقدسة)، وأعلنوا بهذا الصدد لائحة الكتب التي تؤلف العهد القديم، واعتبروها كلام الله الموحى، معتبرين أسفار العهد القديم هذه منتهى الوحي وخاتمة كلام الله إلى شعبه. وبعد هذا الإجتماع حرّمت إستعمال الترجمة اليونانية للعهد القديم والمسماة بالترجمة السبعينية، واعتبروها محّرفة بعد أن وضع المسيحيون يدهم عليها.
وأسفار العهد القديم هي تسعة وثلاثون سفراً، ولكن المؤرخ المشهور يوسفيوس جعلها (22) سفراً فقط وهو عدد الأحرف الأبجدية في اللغة العبرانية، حيث جعل سفري يشوع وراعوث سفراً واحداً ونبوة آرميا ومراثيه سفراً واحداً، ويذكر في كتابه «ضد آبيون»: ليس لنا عدد لا يحصى من الأسفار المتنافرة والمتغايرة، بل اثنان وعشرون سفراً تحوي تاريخ كل الأزمنة وتعتبر أسفاراً إلهية عند اليهود والنصارى، كتب موسى الخمسة التي تضم الشرائع وتروي الأحداث منذ خلق العالم إلى وفاة موسى. وبعد موت موسى روى الأنبياء في ثلاثة عشر سفراً ماحصل في أيامهم، ثم كانت سائر الكتب، فهذا هو رأي اليهود في العهد القديم. وأما المسيحيون فقد قرأوا في نسختها اليونانية كما وصلت اليهم في الترجمة السبعينية، ثم زادوا على الأسفار التسعة والثلاثين سبعة هي: «باروك ـ طوبيا ـ يهوديت ـ سفران للمكابين، الحكمة، يشوع بن سياخ»، والتي تسمى بالأسفار القانونية الثانية أي تأتي أهميتها بعد الأسفار القانونية الاولى. وهذا مانقرؤه في سفر عزرا الثاني، وهو يعتبر من الكتب المنحولة، لانه غير قانوني وقد دوّن في القرن الأول المسيحي باللغة اليونانية: «بعد نهاية الأربعين يوماً من الصلاة والإنتظار كلّمني العلّي: أنشر هذه الكتب التسعة والثلاثين ليقرأها الصالحون والأشرار على السواء، وأما الأسفار السبعون الأُخرى فاحفظها ولا تعطها الاّ للحكماء من شعبي، بل احفظها سراً.»
ومما يجدر الإشارة إليه هو أن الكنيسة الشرقية او التقليد الشرقي اختلف عن الكنيسة الغربية او التقليد الغربي، وقد اختلف علماء المسيحية في تحديد الأسفار القانونية للعهد القديم، فالكنيسة الشرقية اكتفت بالأسفار والنصوص التي يأخذ بها التقليد اليهودي، وعلى العكس من ذلك التقليد الغربي.
فالكنيسة الشرقية لم تقبل الأسفار القانونية الثانية إلى سنة 692م عند إنعقاد المجمع في قصر القسطنطينية الملكي حيث قبلت الكنيسة الشرقية الأسفار القانونية الثانية أيضاً. وأما الكنيسة الغربية فقد قبلت منذ القدم أسفار العهد القديم كما تعرفها الكنيسة الكاثوليكية اليوم، وقد ظهرت في البداية بعض الاختلافات في تحديد تلك الأسفار، ولكن تم وضع حد لتلك الاختلافات وذلك في مجمع قرطاجة الثالث الذي عقد سنة 397م وحدد فيه الأسفار المقدسة.
وأما ترتيب أسفار العهد القديم فهو بالشكل التالي:
1ـ الشريعة (التوراة) او أسفار موسى × وهي: (تكوين ـ خروج ـ العدد ـ اللاويين ـ التثنية).
2ـ الأسفار التاريخية وهي: «يشوع ـ القضاة ـ راعوت ـ صموئيل (1 و 2) ـ سفر الملوك (1و2) ـ سفر الأخبار (1و2) ـ عزراـ نحميا ـ أستير).
3ـ الأسفار الحكمية وهي: (المزامير ـ الأمثال ـ الجامعة ـ نشيد الأناشيد ـ الحكمة).
4ـ الأسفار النبوية وهي: (أشعيا ـ إرميا ـ مراثي إرميا ـ حزقيال ـ دانيال ـ هوشع ـ يوئيل ـ عوبدياـ عاموس ـ يونان ـ ميخا ـ ناحوم ـ حبقوق ـ صفنيا ـ حجّاي ـ زكريا ـ ملاخي).
ويمكن القول أن العهد القديم اليوم لا يحظى بنفس المكانة للعهد الجديد عند النصارى مع تقديسهم إياه، باعتبار ان العهد الجديد بتعاليمه الجديدة قد تجاوز العهد القديم وفتح مرحلة جديدة.
2 ـ العهد الجديد:
إن تسمية العهد الجديد أطلقها النصارى على مجموعة الأسفار التى دونت بعد المسيح × وذلك بعد تدوينها بفترة طويلة وأصبحت القسم الثاني من الكتاب المقدّس، ويحتوي على كتابات تعود إلى النصف الثاني من القرن الأول المسيحي، ودونت هذه الكتابات باللغة اليونانية التي كانت شائعة آنذاك في حوض البحر الابيض المتوسط. ولقد حاول علماء الكتاب المقدّس وضع نص موحد للعهد الجديد تتفق عليه كل الكنائس المسيحية يكون الأقرب إلى النص الأصلي، ولكن لا يزال يدور إلى اليوم جدل حول صحة بعض القراءات للعهد الجديد.
والظاهر أن كتّاب العهد الجديد قد إستقوا معلوماتهم من التعاليم الشفهية، ودوّن كل واحد منهم ما وصل إليه من هذه التقاليد الشفوية في كتب، وكانت هذه الكتب في بداية القرن الثاني الميلادي تتجاوز المئة، وقد حاولت الكنيسة جمع ما تراه مناسباً لتعاليمها ووضعته في كتاب واحد هو العهد الجديد، ورفضت الكثير من الكتب الاخرى واعتبرت تلك الكتب اناجيل منحولة لا اعتبار لها.
وقد أنعقدت مجامع كنسية كثيرة لوضع لائحة للأسفار المقدسة للعهد الجديد، فقد أمر مجمع لادوكية 363م ومجمع هيبون 393م ومجمع قرطاجة 397م لائحة لأسفار العهد الجديد مماثلة إلى حد كبير للعهد الجديد الذي بين ايدينا اليوم.
وهنا أيضاً نقطة يجب الإلتفات إليها وهي أن أسفار العهد الجديد وحتّى نهاية القرن الثاني لم يكن أحد يتكلم بجلاء وصراحة عن الالهام فيها، حتّى آباء الكنيسة، بل الكنيسة كانت في القرن الثاني تعتبر العهد القديم فقط كتاباً مقدساً بالدرجة الأولى، وكانت تسمية العهد الجديد ذاتها لم تكن قد ولدت بعد، بل كان لا بد من انتظار عدة قرون قبل أن نسمع عبارة «الكتاب المقدّس الملهم» التي نُعت بها العهد الجديد.
وقبل الخوض في البحث عن أسفار العهد الجديد اود الإشارة إلى مسألة وهي أن المسيح لم يكتب شيئاً ابداً حسب ما تعتقد الكنيسة، بل ولم يأمر أحداً من تلاميذه بتدوين اقواله واعماله، ولكن بعد رفعه إلى السماء ولأسباب عديدة بدء المسيحيون الاوائل بكتابة مستندات وكتب ورسائل تشير إلى حياة المسيح وتعاليمه، وكان ذلك بعد منتصف القرن الأول للميلاد.
وأما كلمة (إنجيل) فقد استعملها المسيحيون منذ ظهور الدين المسيحي وهي كلمة يونانية تلفظ «ايوإنجيليون» وهي اسم جنس واستعملت بمعنى البشرى او البشارة أي الخبر السار المفرح.
وأسفار العهد الجديد كتبت تقريباً قبل نهاية القرن الأول الميلادي، وأسماؤها حسب الترتيب الموجود بين ايدينا في جميع نسخ العهد الجديد وهي تشكل 27 سفراً هي كالتالي: إنجيل متى ـ إنجيل مرقس ـ إنجيل لوقا ـ إنجيل يوحنا ـ اعمال الرسل ـ رسائل بولس وهي ثلاث عشر رسالة: (رومة ـ كورنيثوس الأولى ـ كورنيثوس الثانية ـ غلاطية ـ أفسس ـ فيليبي ـ كولوسي ـ تسالونيكي الأولى ـ تسالونيكي الثانية ـ تيموثاوس الأولى ـ تيموثاوس الثانية ـ تيطس ـ فليمون) ـ الرسالة إلى العبرانيين ـ الرسائل العامة وهي سبعة: (رسالة يعقوب ـ رسالة بطرس الأولى ـ رسالة بطرس الثانية ـ رسالة يوحنا الأولى ـ رسالة يوحنا الثانية ـ رسالة يوحنا الثالثة ـ رسالة يهوذا) ـ رؤيا يوحنا.
وسنشير هنا الى أناجيل العهد الجديد فقط وبنحو مختصر لأهميتها في معرفة تعاليم المسيح ×:
أولاً: إنجيل متى
يأتى إنجيل متى او الإنجيل بحسب رواية متى اول الأناجيل القانونية طبقاً للترتيب التقليدي، وإن لم يكن فى جميع الحالات، وينسب هذا الإنجيل ــ حسب شهادة الكنيسة الأولى بالإجماع ــ إلى متى الرسول رغم أن عنوانه لا يدل بالضرورة على مصدره المباشر. ومتى مأخوذ من الإسم العبري «مثتيا» ومعناه «عطية الله»، وله اسم ثانٍ ذكر في إنجيلي مرقس ولوقا وهو اسم (لاوي ابن حلفي)، ولقب بالعشّار لانه كان يجبي ضريبة العشر في كفرناحوم لحساب الرومانيين قبل أن يصبح من تلاميذ المسيح ×، وكانت وظيفة الجباية محتقرة بين اليهود، ولا يعرف عن متى سوى القليل، فقد دعاه المسيح × فترك عمله وتبعه ولزمه، ويسجل هو بنفسه كيفية دعوة الرب يسوع له ليكون تلميذاً له، فيقول: "وفيما يسوع مجتازاً من هناك، رأى إنساناً جالساً عند مكان الجباية اسمه متى، فقال له: "اتبعني. فقام وتبعه"، وهكذا أصبح متى أحد الاثنى عشر رسولاً. وروي انه بشر بإنجيله اولاً يهود أرض فلسطين، ثم غادر وطنه ورحل إلى بلاد العرب او الى بلاد فارس، ولا يعرف بالضبط سنة وفاته ومكانها.
وقد كتب متى إنجيله باللغة الآرامية التي كانت اللغة السائدة بين اليهود في ذلك الزمان،وهي لغة السيد المسيح × أيضاً التي تكلم بها مع الناس وأظهر دعوته، وهي لغة شبيهة إلى حد كبير باللغة السريانية، وقد تُرجم هذا النص الآرامي إلى اللغة اليونانية، ثم فقد الاصل الآرامي وبقيت ترجمته اليونانية فقط، واصبحت هذه الترجمة هي المعول عليها في البحث والنقل إلى سائر اللغات الاخرى والمعتمدة لدى الكنيسة، ولا يعرف احد بالتحديد مكان كتابته للإنجيل او زمان ترجمته إلى اليونانية ويحتمل أنها كتبت بين فترة 50-100 م، وهناك رأي يقول أنه كتب في فلسطين لأجل المؤمنين من بين اليهود الذين اعتنقوا الديانة المسيحية المقيمين في فلسطين وسوريا.
ويظهر المسيح × في إنجيل متى على أنه المعلم الكبير الذي له القدرة على تفسير شريعة الله المقدسة والاعلان عن ملكوت الله.
ثانياً: إنجيل مرقس
يعتبر إنجيل مرقس من أقصر الاناجيل من بين الأناجيل الاربعة، وكاتب الإنجيل اسمه (يوحنا مرقس) ويوحنا اسمه اليهودي، ومرقس اسمه اللاتيني الذي يعني (مطرقة) وقد ورد اسمه عدة مرات في سفر اعمال الرسل، ودعي هناك بالإسمين منفردين او مجتمعين، ولم يكن (يوحنا مرقس) من التلاميذ الأثنى عشر، ويزعم البعض أن مرقس هو نفسه الشاب الذي تبع المسيح لما أخذه اليهود في بستان الزيتون ويستدلون على ذلك بأن مرقس قد أنفرد في رواية ما جرى لذاك الشاب وكأنه يريد أن يشير إلى نفسه إذ يقول: «وتبعه شاب ليس عليه غير أزار فأمسكوه فتخلى عن الازار وهرب عرياناً.»
وكان مرقس هذا نسيباً لبرنابا أحد وجهاء كنيسة اورشليم ورفيق بولس في سفره، وقد خسر مرقس مكانته عند بولس اثر تراجعه في منتصف الطريق في الرحلة التبشيرية الأولى، وتصالح بعد ذلك مع بولس ورافقه إلى رومية، ولازم فيما بعد بطرس وخدمه حتّى دعاه بطرس ابنه.
ولا يعرف شيء حقيقي عن حياته بعد ذلك، إلاّ أن الآباء اتفقوا على انه مترجم بطرس وانه كتب إنجيله تحت ارشاد بطرس، وذهب البعض إلى أن بطرس كتب بعض الحوادث التي شاهدها وان مرقس كتب إنجيله بعد مطالعة هذه الكتابات. وقد ذكر المؤرخ يوسيبوس بان مرقس كان اول من نادى برسالة الإنجيل في مدينة الاسكندرية في مصر وقد انشأ فيها الكنيسة واستشهد فيها سنة 68 م، ويرمز إلى مرقس في الفن المسيحي بصورة الأسد. وأما تاريخ كتابة السفر فقد ذكر البعض أن مرقس كتب البشارة التي تحمل اسمه بين عام 65 ـ 68 م.
وهناك ملاحظة حول خاتمة هذا الإنجيل وهي أن الجزء الاخير منه (20: 9 ــ 20) وجد في بعض المخطوطات القديمة ولم يوجد في البعض الاخر مثل المخطوطة السينائية ومخطوطة الفاتيكان، ولذلك فقد أصبح موضع بحث وشك من قبل علماء الكتاب المقدس، وان المخطوطات غير ثابتة فيما يتعلق بخاتمة إنجيل مرقس هذه.
ثالثاً: إنجيل لوقا
يمكن اعتبار إنجيل لوقا بأنه السجل الأشمل بين السجلات التي بين ايدينا عن حياة المسيح ×، وكان الاعتقاد سائداً في القرن الثاني للميلاد بأن لوقا هو كاتب الإنجيل الثالث وسفر اعمال الرسل، ولوقا اسم لاتيني وربما كان اختصاراً لـ «لوقانوس» او «لوكيوس»، وانه ولد من أبوين يونانيين في أنطاكية (سوريا)، وهي المدينة التي دعي فيها لاول مرة اتباع المسيح مسيحيين، وكان يمارس الطب، وقيل انه كان رساماً وانه رسم صورة السيدة مريم العذراء، وتتلمذ لبولس واصبح معاوناً له، وكان غالباً في صحبته إلى أن قُتل بولس في رومية، فترك لوقا هذه المدينة، إلاّ اننا لا نعرف اين قضى بقية حياته ولا أين مات، وقد قيل انه بلغ السبعين من عمره او الثمانين، والكنيسة تكرمه تكريم الشهداء.
ويذكر بولس "لوقا" ثلاث مرات في رسائله ولكن لوقا نفسه لا يذكر اسمه مطلقاً لا في الإنجيل ولا في سفر أعمال الرسل المنسوب اليه. وقد كتب لوقا إنجيله وسفر اعمال الرسل باللغة اليونانية، ويعتقد البعض من علماء الكتاب المقدّس أن لوقا اعتمد في كتابة إنجيله على إنجيل مرقس الذي كان احد المصادر الرئيسة لكتابه، ويذهب البعض إلى انه من الارجح أن لوقا استقى كثيراً مما كتبه وبخاصة عن ولادة يسوع وزيارته للهيكل في سن الثانية عشرة من العذراء مريم نفسها. وأما زمان كتابة هذا الإنجيل فالرأي المشهور هو انه كتب قبل سفر اعمال الرسل بوقت قصير، وبما انه من المرجح أن سفر اعمال الرسل قد كتب حوالي سنة 62 او 63م، لذا يحتمل انه قد كتب سنة 60 م.
وتسمى هذه الأناجيل الثلاثة بالأناجيل التوافقية او الازائية، لأنها تتفق كثيراً في الأحداث والتعاليم التي نقلت عن المسيح، بل أحياناً نجد نفس الجمل والعبارات تتطابق في الأناجيل الثلاثة هذه.
رابعاً: إنجيل يوحنا
الاعتقاد السائد في الكنيسة هو أن كاتب هذا الإنجيل هو يوحنا الرسول احد تلاميذ المسيح، يوحنا هو الصيغة اليونانية لاسم "يوحانان" او يهوحانان" فى العبرية ومعناه (الله حنان)، يوحنا هو ابن زبدي من بيت صيدا في الجليل، دعاه المسيح مع أخيه يعقوب ليكونا من تلاميذه، ويبدو أنه كان على جانب من الغنى لان اباه كان يملك عدداً من الخدم المأجورين، أما امه سالومة فقد كانت سيدة فاضلة نقية، كانت شريكة النساء اللواتي اشترين الحنوط الغالي الثمن لتكفين جسد المسيح، وكانت على الارجح أخت مريم أم المسيح. وقد اتخذ مهنة الصيد حرفة، لأن عادات اليهود كانت تقضي على اولاد الاشراف أن يتعلموا حرفة ما، وكان يوحنا من تلاميذ يوحنا المعمدان (يحيى) ومن تلاميذ المسيح الاوائل، وكان واخوه حادّي الطبع سريعي الانفعال والغضب فلقبهما المسيح "ابني الرعد" او الغضب. وفي قائمة الرسل يذكر يوحنا دائماً بين الأربعة الأولين، وكان أحد الرسل الثلاثة الذين اصطفاهم المسيح ليكونوا اصحابه المقربين وهم بطرس ويعقوب ويوحنا. وقد وثق به المسيح وأحبه بنوع خاص وذلك يظهر من تسميته له بالتلميذ الحبيب. وعند الصليب ظل أميناً للمسيح إذ اوصاه بالعناية بأمه مريم.
ويختلف هذا الإنجيل عن الأناجيل الثلاثة الاخرى اختلافاً جذرياً مضموناً واسلوباً، وقلّ ما ذكر مؤلفه من الاُمور التي ذكرها الكتّاب الاناجيل الثلاث، ولا يتضمن هذا الإنجيل أية أمثال، أما الاحداث التي يذكرها فقد حدثت معظمها في اورشليم او ضواحيها.
ويدعى هذا الإنجيل ايضاً بالإنجيل (الروحي)، والظاهر أن يوحنا كتبه او أملاه في مدينة أفسس (في تركيا اليوم) في نهاية القرن الأول الميلادي أي بين سنة 90 ــ 100 م. وقد كتب الإنجيل باللغة اليونانية. وتعتقد الكنيسة أن الداعي إلى كتابة هذا الإنجيل هو تثبيت الكنيسة الأولى في الإيمان بحقيقة لاهوت المسيح × وناسوته معاً، وذلك لدحض البدع المضلة التي كان فسادها آنذاك قد تسرب إلى الكنيسة، فأنه يروي في إنجيله بعد مقدمة يقرن فيها كلمة الله بالمسيح، عدة معجزات وتفسيره لها مما أدى إلى اعتقاد الكنيسة إلى أن هذه المعجزات تدل على كون المسيح هو ابن الله والمخلّص الموعود. ويتميز كاتب الإنجيل هذا بانه يرمز إلى الحقائق الروحية باستعارات مادية كالخبز والماء والنور والراعي وغيرها، ويعتقد البعض ان هذا الإنجيل هو الذي يثبت إلوهية المسيح أكثر من الأناجيل الأخرى لنقله نصوصاً عن المسيح تشير الى هذه العقيدة، ويرى بعض الكتّاب ان هذا الاعتقاد مجانب للحق، بل يذهب الى القول ان إنجيل يوحنا يثبت نبوة وبشرية عيسى وانه نبي ورسول من الله أكثر من الأناجيل الأخرى.
هذه نظرة سريعة عن الكتاب المقدس وهناك مسائل وبحوث أخرى كثيرة تتعلق بدراسته لم نذكرها لعدم تناسبها مع هذا الكتاب المختصر، وهناك دراسات تخصصية أخرى من قبيل ترجمة العهدين الى اللغات الأخرى وأهم النسخ الخطية المتوفرة منه حالياً والتي من خلالها يحاول علماء الكتاب المقدس اثبات تواتر وحجية العهدين الذي هو بين ايدينا اليوم وغيرها من الدراسات.
الفصل الثاني
الوصايا العشر في العهد القديم
ويتضمن مباحث:
المبحث الأول: ظروف إنزال الوصايا العشر
المبحث الثاني: نظرة اجمالية للوصايا العشر
المبحث الثالث: مقارنة بين سفري الخروج والتثنية
تمهيد
تعتبر الوصايا العشر لب الشريعة الموسوية وأساس عهد الله مع بني اسرائيل. ومبادئ الحياة الدينية للشعب الاسرائيلي في أرض كنعان. وكان شعب العهد القديم يهتم بتنفيذها، واصبحت قانوناً للحياة والسلوك الاخلاقي بالنسبة لهم.
وهذه الوصايا هي الأولى لشعب إسرائيل عندما كانوا في معسكر سيناء، وبعد حوالى خمسين يوما من خروجهم من ظلم فرعون في مصر. وتمثل الوصايا العشر القانون الأساسي للعهد بين الله وبني إسرائيل في جبل سيناء ؛ وتاريخ هذا الحدث هو القرن الثالث عشر قبل الميلاد بحسب التاريخ العبري، وتسمى الوصايا أيضاً بـ "الكلمات العشر".
وكانت الوصايا في واقع الامر دستور مجتمع في طور التكوين خلال فترة موسى وخليفته يشوع. لأن الله هو الذي مكن إسرائيل من التحرك في اتجاه ارض كنعان واقامة الدولة، وذلك بعد تحرير الشعب الاسرائيلي من العبودية في مصر. فالوصايا العشر هي التعاليم التي تؤثر على الالتزامات الاساسية للدين والاخلاق، والتي تجسد كيفية التعبير عن ارادة الخالق في ما يتعلق بواجبات الانسان اتجاه خالقه وبقية ابناء نوعه. ونحن في هذا الفصل سنشير الى بعض المسائل المرتبطة بهذه الوصايا من قبيل مكان وزمان نزولها وكيفية كتابتها على الالواح ومن ثم نذكرها مع شرح مختصر لها.
المبحث الأول: ظروف إنزال الوصايا العشر
اولاً: مكان وزمان نزول الوصايا العشر
حسب ما هو مذكور في التوراة في سفر الخروج فان الوصايا العشر كانت اول الكلمات التي اوحاها الله تعالى الى نبيه وكليمه موسى بعد اخراجه بني إسرائيل من ارض مصر، وكان ذلك في جبل سيناء، وقد ذكر ذلك في الفصل التاسع عشر من هذا السفر الذي يعتبر مقدمة لما يعرف بـ (عهد سيناء)، إذ يذكر مكان وزمان نزول الوصايا الأولى للشريعة الموسوية وكيف أنّ الشعب الاسرائيلي حينما وصل الى جبل سيناء، وجّه إليه موسى تعليمات دقيقة، وفرائض صارمة ليستعدّ لتقبّل الوحي على الجبل.
يقسم الفصل إلى مقاطع، ففي المقطع الأول (1 ــ 8) ينادي الربّ موسى ×؛ وفي المقطع الثاني (9 ــ 15) ينقل موسى الى الشعب التعليمات الواجب اتّباعُها للاستعداد للحضور الى الجبل ؛ وفي المقطع الثالث (16 ــ 25) يتراءى الله على الجبل، وهنا سنعرض هذه الأحداث التي ذكرها سفر الخروج في كيفية تسلم موسى × الوصايا العشر.
يذكر سفر الخروج انه بعد ثلاثة أشهر من خروج بني إسرائيل من ارض مصر وصلوا الى صحراء سيناء حيث جاء: «في الشهر الثالث بعد خروج بني إسرائيل من ارض مصر في ذلك اليوم جاؤوا إلى برية سيناء. ارتحلوا من رفيديم وجاؤوا إلى برية سيناء فنزلوا في البرية هناك نزل إسرائيل مقابل الجبل.»
واستقر شعب بني إسرائيل في برية (صحراء) سيناء من الشهر الثالث للخروج من مصر وحتى العشرين من الشهر الثاني للسنة الثانية، أي ما يقرب من سنة كاملة جرت فيها أحداث هامة، حيث استلموا الوصايا وأقاموا خيمة الاجتماع، ومن هنا نستطيع القول ان الوصايا العشر نزلت على موسى × بعد ثلاثة اشهر من خروجه من مصر وعلى جبل سيناء والذي يسمى بجبل حوريب، ويذكر الكتاب المقدس برية سيناء وجبل سيناء 35 مرة، وفي 17 مرة تسمى حوريب، وقد قضى بنو إسرائيل عند هذا الجبل سنة بعد خروجهم، وكانت تحيط بهذا الجبل مساحة كافية لأن يعسكر فيها العبرانيون كلهم لمدة سنة، وكانت هذه الأرض السهلة والصحراوية قريبة من الجبل حتى يمكن مسّه، ولا يسجل الكتاب المقدس أن أحداً زار هذا الجبل بعد ذلك إلا إيليا حين هرب من وجه ايزابل.
وبعد ذلك نادى الله تعالى موسى × وأمره بأن يخاطب بني إسرائيل بأنهم إن التزموا بما سيعهد اليهم الله فانه سيجعلهم خاصة عباده من بين جميع بني البشر وفقا لما ورد في سفر الخروج، فيقول: «وأما موسى فصعد إلى الله فناداه الرب من الجبل قائلاً: هكذا تقول لبيت يعقوب وتخبر بني إسرائيل، انتم رأيتم ما صنعت بالمصريين وأنا حملتكم على أجنحة النسور وجئت بكم إليّ، فالآن أن سمعتم لصوتي وحفظتم عهدي تكونون لي خاصة من بين جميع الشعوب فان لي كل الأرض، وانتم تكونون لي مملكة كهنة وأمة مقدسة هذه هي الكلمات التي تكلم بها مع بني إسرائيل.»
هنا في هذا النص يذكر الله شعب بني إسرائيل كيف خلّصهم من مصر الى هذه الأرض ليقيم معهم عهدًا إن هم حفظوا وصاياه، وسوف تأخذ فيما بعد مدلولاً تاريخيّاً ولاهوتيّاً وعقديّاً. وهذا يعني أنّ الله، وهو رب وخالق الأمم كلِّها، اختار بني إسرائيل من أجل رسالة، فأحبّهم حبّاً خاصّاً وأقام معهم عهداً، ولكنّ هذا العهد لا يعني أنّ شعب إسرائيل بشكل مطلق هو الشعب الذي اختاره الله تعالى، بل هذا كله يتوقف على ايفائه بالعهد، وهذه الوصية تتضمن هذا الشرط ضمنا، كما ان القرآن الكريم ايضا أشار الى هذا المعنى في قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}
وامر الله موسى ان يتهيؤوا لملاقات الرب على الجبل، فأمر موسى الشعب بذلك، فاستعدّ الشعب على مدى ثلاثة أيام قبل أن يحتفل بلقائه بالرب، ويكون الاستعداد او التقديس بغسل الثياب وكلّ وسخ خارجيّ يمسّ نقاوة الإنسان، فيمنعه من الاتّصال بالله في معبده، جاء في سفر الخروج: «فقال الرب لموسى إذهب إلى الشعب وقدسهم اليوم وغدًا وليغسلوا ثيابهم ويكونوا مستعدين لليوم الثالث لأنه في اليوم الثالث ينزل الرب أمام عيون جميع الشعب على جبل سيناء». ولكن الله امر موسى ان لا يقترب احد من بني إسرائيل من الجبل ولا يمسه بل يضع حدوداً لهم لا يتجاوزوها، ولا يصعد الجبل سوى موسى فيقول السفر: «وتقيم للشعب حدودًا من كل ناحية قائلا احترزوا من أن تصعدوا إلى الجبل او تمسوا طرفه كل من يمس الجبل يقتل قتلا ً»، وبعد اليوم الثالث نزل الله تعالى الى الجبل وفق القصة التوراتية فحدث رعد وبرق عظيم، فتجلى الرب ونطق الله بالوصايا العشر امام جميع بني إسرائيل حيث جاء «وكان جبل سيناء كله يدخن من اجل أن الرب نزل عليه بالنار وصعد دخانه كدخان الأتون وارتجف كل الجبل جدًا ونزل الرب على جبل سيناء إلى رأس الجبل ودعا الله موسى إلى رأس الجبل فصعد موسى. فقال الرب لموسى انحدر حذر الشعب لئلا يقتحموا إلى الرب لينظروا فيسقط منهم كثيرون. وليتقدس أيضًا الكهنة الذين يقتربون إلى الرب لئلا يبطش بهم الرب. فقال موسى للرب لا يقدر الشعب أن يصعد إلى جبل سيناء لأنك أنت حذرتنا قائلاً: أقم حدودًا للجبل وقدسه. فقال له الرب اذهب انحدر ثم اصعد أنت وهارون معك وأما الكهنة والشعب فلا يقتحموا ليصعدوا إلى الرب لئلا يبطش بهم. فانحدر موسى إلى الشعب وقال لهم.»
النطق والتكلم بالوصايا كان أمام الشعب جميعه ومعهم موسى، أما باقي الشرائع فكانت لموسى وحده على الجبل وهو مع الله، ولم يتكلم الله جهارًا سوى هنا، وقيل ان المتحدث لم يكن الله تعالى بل الملائكة، يقول التقليد إنّ بني إسرائيل لم يروا صورة للرب في حوريب، بل سمعوا صوته فقط، لهذا عليهم أن يمتنعوا أن يصنعوا للرب الصور والتماثيل. فقد جاء في تفسيرالكتاب المقدس: «ربما كانوا يرددون هذه الوصايا او أن الله كان يتكلم مع الملائكة وهم يقولونها للشعب. او أن الملائكة كان لهم صوت بوق الإنذار قبل أن يتكلم الله بالوصايا، وهذا الإنذار كان ليلقي الرعب والتوقير في قلوب السامعين حتى يعرفوا أن كسر الوصية مرعب.»
والسبب في نزول الوصايا بعد خروج بني إسرائيل يعزيه البعض الى انه ما كان يمكن للشعب أن يتقبل الوصايا الإلهية او يتذوق الشريعة وهو في أرض العبودية، لذا خرج به الله إلى هذه الأرض ليسلمه الشريعة هناك، مبتدءاً بالقول: «أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية»، وبالرغم من أن هذه العبارة جاءت كمقدمة للوصايا وليست في شكل وصية إلاَّ أن اليهود اعتبروها جزءًا من الوصية الأولى.
ثانياً: كيفية نزول الوصايا
ذكرت التوراة ان الوصايا العشر كتبت على لوحين: «وقال الرب لموسى اصعد إلى الجبل وكن هناك فأعطيك لوحي الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعليمهم»، وأكد القرآن الكريم ذلك في بعض آياته ــ ولكن القرآن صرح على انها كتبت على ألواح وهو جمع، أي ثلاثة الواح فما فوق ــ وهذا ما سنشير اليه لاحقاً، وكانت الحوادث تسجل في الأزمنة القديمة على الحجر او الخزف ويظهر أن العبرانيين استعملوا الكتابة لأول مرة بعد خروجهم من مصر وأنهم تعلموا هذه الصناعة من المصريين الذين كانوا يتقنونها عصوراً طويلة قبل ذلك، وكان العبرانيون يحفرون الكلمات والحروف والأرقام على ألواح حجر ويطبعونها على لبن او ينقرونها في صفائح معدنية كالرصاص او الحديد او البرونز او النحاس ويحفرونها في ألواح خشبية. وكانوا ينقرون الكتابات في الصخور ويسكبون رصاصاً في الحروف المحفورة بهذه الطريقة .
ومن المعروف الآن أن الكتابة كانت منتشرة في اور الكلدانيين قبل أن يرحل عنها إبراهيم الخليل بعدة قرون، وفي مصر ايضا وذلك لعدة قرون قبل أن يسكن بنو إسرائيل على ضفاف النيل. وكانت أيضاً مستعملة في مدن كنعان وقتاً طويلاً قبل أن يستولي العبرانيون عليها.
ومن هنا نستنتج ان الوصايا العشر القاها الله على مسامع بني إسرائيل ثم اعطاها كتابة لموسى وقد كتبت على لوحين من حجر وان الله تعالى كتبها باصبعه ثم سّلم الله لموسى لوحين مكتوبين بإصبعه أي بروح القدس. وقد ذكرت التوراة ذلك حيث جاء في سفر الخروج: «ولما انتهى الله من مخاطبة موسى على جبل سيناء، سلمه لوحي الشهادة، لوحين من حجر مكتوبين باصبع الله»، وعندما اتخذ بنو إسرائيل العجل امر الله موسى بالنزول من الجبل ومعه لوحي الشهادة «فانصرف موسى ونزل من الجبل ولوحا الشهادة في يده لوحان مكتوبان على جانبيهما ومن هنا كانا مكتوبين. واللوحان هما صنعة الله والكتابة كتابة الله منقوشة على اللوحين»، وقام بتحطيم الحجرين مع ان الله قد كتبهما بنفسه غيرة على التوحيد «وكان عندما اقترب إلى المحلة انه ابصر العجل والرقص فحمي غضب موسى وطرح اللوحين من يديه وكسرهما في اسفل الجبل » والظاهر من هذه النصوص ان الحجرين كانا يختصان فقط بالوصايا العشر ولذلك قسموا هذه الوصايا حسب اللوحين من دون ذكرهم لشريعة اخرى. والظاهر من القرآن هو أن موسى القى الألواح حين اشتد غضبه دون التصريح بكسرها وقد أخذها بعدما سكت عنع الغضب.
وبسبب ان الوصايا العشر لم تأخذ أرقامًا في الكتاب المقدس لهذا ظهر نوعان من التقسيم:
اولاً: التقسيم القديم الذي عرفه اليهود، واورده يوسيفوس وفيلون، وأخذ به اوريجانوس ولا تزال الكنائس البروتستانتية غير اللوثرية تأخذ به، يقوم هذا التقسيم على التمييز بين الوصية الخاصة بمنع تعدد الآلهة، والوصية الخاصة بعدم إقامة عبادة الاوثان، باعتبارهما الوصيتين الأولى والثانية، هذا مع اعتبار "لا تشته امرأة قريبك..." جزءًا من الوصية التي تأمر ألاَّ يشتهي ممتلكات القريب.
بهذا التقسيم تصبح الوصايا الأربع الأولى خاصة بعلاقة الإنسان بالرب، أما الوصايا الباقية "الستة" فخاصة بعلاقة الإنسان بأخيه. وهناك رأي يقول إن كل لوح حمل خمس وصايا، فتكون الوصية الخامسة الخاصة بإكرام الوالدين قد نُقشت مع الوصايا الخاصة بعلاقة الإنسان بالله على اللوح الأول، ويبرر أصحاب هذا الرأي ذلك، بأن اليهود كانوا يرون إكرام الوالدين أمرًا مطلقًا بلا شرط، وكأن الوصية الخاصة بذلك هي امتداد للوصايا الخاصة بعلاقة الإنسان بالله. وهذا ينسجم مع اقتران الامر ببر الوالدين بوحدانية الله تعالى في القرآن الكريم: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}.
ثانياً: التقسيم الذي تُنادي به الكنيسة الكاثوليكية والكنائس اللوثرية البروتستانية، (سنشير اليه في الفصل الثالث) وقد اعتمدت الكنيسة على أغسطينوس الذي اعتبر أن الوصية الخاصة بعدم تعدد الآلهة تضم معها الوصية الخاصة بعدم عبادة الاوثان، بينما جعل من الوصية الخاصة بعدم اشتهاء امرأة القريب وصية مستقلة عن عدم اشتهاء ممتلكات القريب. بهذا يرى أن الوصايا الخاصة بعلاقة الإنسان بالله هي ثلاثة، والوصايا الخاصة بعلاقة الإنسان بقريبه سبعة، اللوح الأول شمل الثلاث وصايا الأولى، والثاني شمل الوصايا السبع الأخيرة.
وقد تم تقسيم الوصايا على اللوحين أيضاً على النحو التالي:
وصايا اللوح الأول هدفها العلاقة مع الله:
1. أنا الرب إلهك.. لا يكن لك آلهة أخرى....
2. لا تصنع لك تمثالاً ولا صورة.....
3. لا تنطق باسم الرب باطلاً...
4. قدّس يوم السبت...
وصايا اللوح الثاني هدفها العلاقة مع الإنسان:
5. أكرم أباك وأمك....
6. لا تقتل.
7. لا تزن.
8. لا تسرق.
9. لا تشهد بالزور.
10. لا تشته كل ما لقريبك... .
وهناك من يجمع الوصية الأولى مع الثانية في وصية واحدة، فتصبح وصايا اللوح الأول
ثلاث وصايا. وهؤلاء يقسمون الوصية العاشرة إلى وصيتين "الأولى" لا تشته امرأة قريبك
و"الثانية" لا تشتهي مقتني غيرك حتى تبقى الوصايا عشر، وبذلك تكون وصايا اللوح الثاني بهذا التقسيم سبعة.
وكما أشرنا فهناك من يقول إن وصية) إكرام الوالدين (الوصية الخامس تنضم الى اللوح الأول فيكون كل لوح به خمس وصايا.
المبحث الثاني: نظرة إجمالية للوصايا العشر
تُسمى الوصايا العشر بالكلمات العشر وتدعى "كلمات العهد" ولوحا الشهادة ، وقد ورد نص هذه الوصايا مرتين مرة في سفر الخروج ومرة أخرى في سفر التثنية، والفارق بينهما أن النص في سفر الخروج قدم تبريرًا لوصية تقديس السبت أن الله استراح بعد الخلق في اليوم السابع، أما في سفر التثنية فارتكز على أنه في ذلك تذكار للخلاص من أرض العبودية والدخول إلى الاستقلال والوصايا قصيرة وموجزة. وقد اشار البعض الى ان كل ماجاء في الكتاب المقدس والتلمود من أقوال هي من الناحية التقليدية ما هي الا فروع لاصل واحد هو الوصايا العشر التي فيها يكمن القانون الاساسي الكامل.
ويلاحظ أن الوصايا العشر قد حملت جانباً سلبياً فيما عدا وصيتي تقديس السبت وإكرام الوالدين، كما أن الوصية الخاصة بإكرام الوالدين هي الوصية الوحيدة التي لها وعد.
واما نص الوصايا كما ورد في سفر الخروج فهي على النحو التالي:
«وتكلم الرب بهذا الكلام كله قائلاً: أنا الرب إلهك الذي أخرجك من ارض مصر من بيت العبودية. لا يكن لك آلهة أخرى أمامي، لا تصنع لك تمثالاً منحوتًا ولا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن ولا تعبدهن لأني أنا الرب إلهك إله غيور افتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي. واصنع إحساناً إلى ألوف من محبي وحافظي وصاياي، لا تنطق باسم الرب إلهك باطلا لأن الرب لا يبرئ من نطق باسمه باطلاً، اذكر يوم السبت لتقدسه ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك. وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك لا تصنع عملاً ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها واستراح في اليوم السابع لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه، اكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب إلهك، لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد على قريبك شهادة زور، لا تشته بيت قريبك لا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئًا مما لقريبك».
وقد أعاد موسى هذه الوصايا مرة أخرى في سفر التثنية تذكيراً لبني إسرائيل بالوعد الذي وعده الله لهم سابقاً بعد خروجهم من ارض مصر، فهي تكرار للوصايا التي نطق بها الله تعالى لجميع بني إسرائيل على جبل سيناء، فقد جاء في مقدمة هذه الوصايا في سفر التثنية:
«و دعا موسى جميع بني إسرائيل و قال لهم: اسمع يابني إسرائيل الفرائض و الاحكام التي اتكلم بها في مسامعكم اليوم و تعلموها و احترزوا لتعملوها الرب الهنا قطع معنا عهداً في حوريب ليس مع ابائنا قطع الرب هذا العهد بل معنا نحن الذين هنا اليوم جميعا احياء، وجهاً لوجه تكلم الرب معنا في الجبل من وسط النار، وجهًا لوجه انا كنت واقف بين الرب و بينكم في ذلك الوقت لكي اخبركم بكلام الرب لانكم خفتم من اجل النار ولم تصعدوا الى الجبل.»
ومن ثم كرر عليهم الوصايا مرة أخرى تذكيراً بها، ولهذا اختلفت الوصايا في سفر التثنية قليلا عن الوصايا في سفر الخروج باعتبار ان المتحدث هنا هو موسى وليس الله تعالى، ولهذا اطلق على هذا السفر سفر التثنية اي التكرار، اذ انه يذكر بتاريخ بني إسرائيل الماضي عائداً بالذكرى الى ترائي الله تعالى على جبل سيناء واعطائه للوصايا العشر.
وهنا نقف عند هذه الوصايا مع بيان تفسير مختصر لكل واحدة منها من وجهة نظر اليهود.
الوصية الأولى: لا يكن لك آلهة أخرى أمامي
تبدأ الوصايا العشر هكذا: « أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية. لا يكن لك آلهة أخرى أمامي...»
في قوله: "لا يكن لك آلهة أخرى أمامي" لا يعني وجود آلهة أخرى، إنما يحذر شعب بني إسرائيل من السقوط في التعبد لآلهة الوثنيين مع عبادتهم لله. ويرى أثناسيوس الرسولي: «أن هذه الوصية تعني ان الله لكي يسحب البشر بعيدًا عن التخيلات الخاطئة غير العاقلة الخاصة بعبادة الاوثان... ليس كما لو كانت هناك آلهة أخرى يمنعهم عنها، إنما اوصى بذلك لئلاَّ ينحرفوا عن الله الحقيقي ويقيموا لأنفسهم آلهة مما لا شيء، كما فعل الشعراء والكتّاب.»
وذهب بعض المفسرين في تفسير قوله لا يكن لك آلهةٌ غيري (عل فني بالعبريّة): كلمة "عل " العبرية تعني بجانبي. وتعني «وحدَه الله يُعبد في بلاد إسرائيل، ولا يُعبد أحد معه. وتعني أيضًا فوقي: لا تفضّل إلهًا من الآلهة عليّ. وتعني أخيرًا ضدّي: لا يكن لك آلهة أخرى تتحدّاني لأنّيْ أنا إله غيور».
الله يذكر بني إسرائيل بأنه هو الذي حررهم لأنه أحبهم، إن كان الله أحبهم وحررهم فلا يجب أن يستعبدوا أنفسهم لآلهة أخرى تذلهم، إنه يُريدنا أن نحبه ليملك على القلب تمامًا، ليس لأنه يُريد أن يستعبدنا او يذلنا، وإنما لأنه "إله غيور"... لذلك أصر أن يصف نفسه هكذا "أنا الرب إلهك إله غيور". وقد علق يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة قائلاً: «قال الله هذا لكي نتعلم شدة حبه، فلنحبه كما يُحبنا هو، فقدم ذخيرة حب كهذه. فإننا إن تركناه يبقى يدعونا إليه، وإن لم نتغير يؤدبنا بغضبه، ليس من أجل التأديب في ذاته، لقد فعل الله كل شيء لكي نحبه، ومع هذا فنحن متراخون وشرسون(.
ويعلق العلامة اوريجانوس على نفس العبارة قائلاً:
«أنظروا محبة الله، فإنه يحتمل ضعف البشر لكي يعلمنا ويدخل بنا إلى الكمال... كل امرأة مرتبطة برجلها تخضع له وإلا صارت زانية، تبحث عن الحرية لكي تخطئ. ومن يذهب إلى زانية يعرف أنه يدخل إلى امرأة زانية تُسلم نفسها لكل من يَقْدم إليها، لذا فهو لا يغضب إن رأى آخرين عندها. أما المتزوج شرعيًا فلا يحتمل أن يرى زوجته تُخطئ، وإنما يعمل دائبًا على ضبط طهارة زواجه، ليتأكد أنه الأب الشرعي.إن فهمت هذا المثل تستطيع أن تقول أن النفس تتنجس مع الشياطين والأحباء الآخرين الكثيرين، فعادة يدخل عندها روح الزنا، وعند خروجه يدخل روح البخل ثم روح الكبرياء ثم روح الغضب ومحبة الزينة والمجد الباطل، ويدخل آخرون كثيرون يزنون مع النفس الخائنة دون أن يَغير أحدهم من الآخر... ولا يطرد الواحد الآخر، بل بالعكس كل منهم يقدم الآخر... وكما رأينا الروح الشريرة التي يقول عنها الإنجيل: "إن خرج من إنسان يرجع ومعه سبعة أرواح أشر منه"، ويسكن هذه النفس. أما إن اتحدت النفس مع زوج شرعي، تهب النفس ذاتها له وترتبط به شرعيًا، حتى وإن كانت في ماضيها خاطئة وسلكت كزانية، لكنها متى ارتبطت به تتعهد ألاَّ تخطئ مرة أخرى. النفس التي اختارته عريسًا لها لا يحتمل أن تلهو مع الزناة. وهو أيضًا يَغير عليها، ويدافع عن طهارة حياته الزوجية.
يُدعى الله "إلهًا غيورًا"، لأنه لا يحتمل أن ترتبط النفس التي وهبت ذاتها له بالشياطين... إن كنا قد عرفناه بعد ما استنرنا بكلماته الإلهية، بعد الاعتراف بالإيمان، والارتباط بمثل هذه الأسرار العظيمة فإنه لا يريدنا أن نخطئ أيضًا، ولا يحتمل أن يرى النفوس تلهو مع الشياطين، وتتمرغ في حمأة الإثم. وإن حدثت هذه المصيبة، فعلى الأقل يريدها أن ترجع وتتوب.
هذا نوع جديد من محبته لنا: أن يقبل النفس التي ترجع إليه بعد الزنا وقد تابت بكل قلبها إذن الله الغيور، يبحث عن الانسان ويتمنى أن يربط نفسه به ويحفظه من الخطيئة ويقوِّمه ويؤدبه ويغضب عليه».
الوصية الثانية: لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة مما في السماء من فوق وما في الارض من تحت وما في الماء من تحت الأرض
جاءت الوصية هكذا: «لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض، لا تسجد لهن ولا تعبدهن، لأني أنا الرب إلهك إله غيور افتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي، واصنع إحساناً إلى ألوف من محبي وحافظي وصاياي.»
روح الوصية هو وقف تسلل العبادة الوثنية إلى الشعب الاسرائيلي، فقد عرف الشعب اليهودي بتعرضه للسقوط في نوعين من الانحراف الوثني:
أ. الامتثال بالوثنيين المحيطين بهم.
ب. الخلط بين العبادة الوثنية وعبادة الله، كما يظهر من عبادتهم للعجل بقصد التعبد لله الحيّ خلال هذا العمل الرمزي.
معنى كلمة "فسل" في العبرية تعني الصورة المنحوتة او المحفورة في الخشب والحجر والمعدن، إنّ هذه الوصية تمنع المؤمن من أن يصنع أيّ صورة للرب. إذ الرب لا مثيل له، هناك علاقة متينة بين الصورة والحقيقة، كما بين الإسم والشخص، من حقّر الإسم حقَّر الشخص، أمّا السبب اللاهوتيّ لهذا المَنع فنحن نقرأه في سفر التثنية الذي يقول: «فاحتفظوا جداً لأنفسكم فانكم لم تروا صورة ما يوم كلمكم الرب في حوريب من وسط النار لئلا تفسدوا و تعملوا لانفسكم تمثالاً منحوتاً صورة مثال ما شبه ذكر او انثى شبه بهيمة ما مما على الأرض شبه طير ما ذي جناح مما يطير في السماء ... و لئلا ترفع عينيك الى السماء و تنظر الشمس و القمر و النجوم كل جند السماء التي قسمها الرب الهك لجميع الشعوب التي تحت كل السماء فتغتر و تسجد لها و تعبدها.»
وللشعوب تماثيلُ تعبر عن أشياءَ مقدسة، أمّا الله فلا شيء يشبهه ابداً، لذلك لا يحقّ للمؤمنين أن يفعلوا ما تفعله سائر الأمم، لأنّ وحي الله يؤكد على عدم جواز ذلك.
وذهب البعض الى إن منع الصور في العهد القديم قام جوهريًا على عجز الشعب اليهودي عن التمييز بين العبادة Lateria الخاصة بالله وحده والتكريم Probynesis الذي يمكن تقديمه لغير الله، فسبحانه لم يمنع التماثيل إلاَّ من حيث الخوف عليهم من السقوط في الانحرافات الوثنية. ويظهر ذلك بوضوح من أمر الله لشعب بني إسرائيل قديمًا بإقامة صورًا معينة هو حددها، كجزء في الطقس التعبدي، اذ أمر الله موسى أن يعمل تمثالاً من النحاس لحيّة يضعها على سارية في البرية لتكون سرّ شفاء لكل لديغ ينظر إليها. اما قوله أفتقد ذنب الآباء في الأبناء ففسره البعض من «ان الله لا يعاقب شخصا على خطايا والديه إن كان هو نفسه لا يخطئ مثلهم، بل إن كان الأولاد يشبهون أباءهم في خطاياهم فالله سيعاقب في الجيل الثالث والرابع».
الوصية الثالثة: لا تنطق بإسم الرب إلهك باطلاً لأن الرب لا يبرئ من نطق باسمه باطلاً
الوصيتان الأولى والثانية خاصَّتان بعبادة الله بعيدًا عن كل انحراف وثني، أما الوصية الثالثة فتخص "اسم الله". إذ خشى الله على شعبه أن يُقسموا بأسماء آلهة أخرى أعطاهم الرب أن يحلفوا باسمه، حيث جاء في سفر التثنية: «بل الرب الهك تتقي واياه تعبد وباسمه تحلف».
ولكن اشترط عليهم ألاَّ يحلفوا باسم الرب كذبًا او في كلام فارغ او بلا سبب جوهري،حيث ذكر في سفر اللاويين ــ يطلق عليه إسم الأحبار أيضاً ــ « لا تحلفوا باسمي كذبا فتدنس اسم الهك» ، وأن يؤدوا ما قد حلفوا به باسم الرب.
هذا بالنسبة للقسَم، أما بالنسبة لترديد اسم الله، فقد طلب منهم أن لا يرددونه باطلاً، أي بلا سبب جوهري، فإن اسمه قدوس، علينا أن نهابه ونوقِّره، لا ننطق به إلاَّ في خشوع وبكل إجلال، فقد أمر موسى النبي قائلاً: «لتهاب هذا الإسم الجليل الرهيب، الرب إلهك».
أما في العهد الجديد والقرآن فقد نهى الانسان المؤمن ان يحلف البتة كقول المسيح: «ليكن كلامكم نعم نعم لا لا، وما زاد على ذلك فهو من الشرير»، وكذلك أكّد القرآن كما في قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ} وهذا ما سنشير اليه لاحقا. وقد خاف التقليد اليهودي ان يتلفظ باسم الرب، فيكون تلفظه به باطلا ولهذا كانوا يستخدمون اسماء اخرى ليدل على الله.
الوصية الرابعة: أذكر يوم السبت لتقدسه
السبت بالعبرية «شبت» أي الراحة، واول مرة استخدم كان في سفر التكوين عندما خلق الله السماوات والأرض في ستة ايام ثم استراح في اليوم السابع فباركه وقدسه: «وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل، لأنه في ستة أيام صنع الرب السماء والارض وفي اليوم السابع استراح وتنفس». يفترق يوم السبت عن سائر الأيّام التي هي أيّام عمل، وهكذا تفصل الوصية بين أيّام العمل ويوم الراحة، بالإضافة إلى ذلك اصبح اليوم السابع في العهد القديم يوم عيد يحتفلون به كما يحتفلون بسائر الأعياد، فيعتبر يوم تكريس الزمن للرب، فكما يقدّم المؤمن للرب اولى حصاده، كذلك يقدّم له اول أيّام أسبوعه.
قال البعض نقلا عن كهنة اليهود: «إنّ الله استراح بعد عمله، كذلك يستريح الإنسان بعد عمل ستة أيّام. أمّا سفر التثنية فيربط شريعة السبت بعبودية بني إسرائيل في مصر، حيث لم تكن لهم عطلة أسبوعية، فيعيشون دوماً في رتابة العمل اليومي.
وهكذا فتنظيم يوم السبت يدل على الاستقلال السياسي الذي يحرّرهم من حكم الفرعون وعبوديته، ويربطهم بسلطان الله وعبادته. بهذا الشكل يصبح السبت دليلاً آخر على حنان الله ورحمته لشعبه.»
أنّ يوم السبت أخذ أهميّة كبرى في ديانة شعب إسرائيل، فصارت شريعته وشريعة الختان أهمَّ ما في العالم اليهوديّ من ممارسات. يكفي لذلك أن نذكر ما فعله اولئك الذين ذهبوا الى البريّة في عهد المكابيين، عندما أدركهم جنودُ الملك أنطيوخس الأنطاكيّ، وناصبوهم القتالَ يوم السبت، ففضلوا الموت على تدنيس يوم السبت.
الوصية الخامسة: إكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب الهك
أكرم أباك وأمّك... يشكل إكرام الوالدين الوصيّةَ الأولى التي تنظّم علاقاتنا بالقريب، بعد أن نظّمت الوصايا الثلاث الأول علاقاتنا بالله.
أكرم أباك وأمّك، تلك هي الوصيّة الأساسيّة التي زاد عليها سفرُ الخروج: «ليطولَ عمُرك في الأرض التي يعطيك الربّ إلهك»؛ وزاد سفر التثنية: «كما أمرك الربّ إلهك، ولكي تُصيب خيرًا في الأرض».
وضع الله إكرام الوالدين في مقدمة الوصايا الخاصة بعلاقتنا بالآخرين، فأمر بإكرامهما قبل أن يوصي "لا تقتل" او "لا تزن" يقول الاب شنودة بهذا الصدد: «ان الرب لكي يعطينا فكرة عميقة عن الاكرام، يقول «اكرم اباك وامك» قبل ان يقول «لا تقتل» وقبل ان يقول «لا تزن» وقبل الوصايا الاخرى، كأن الذي يخطئ بعدم اكرام والديه هو اكثر خطيئة ممن يرتكب جريمة قتل او زنا او سرقة ...».
وهي الوصية الوحيدة المقترنة بمكافأة او وعد، وكانت الشريعة صارمة على من يخالف هذه الوصية: «من ضرب أباه او أمه يُقتل قتلاً... ومن شتم أباه او أمه يقتل قتلاً».
بل جاء في سفر التثنية ان من يعاند ولا يسمع لقول أبيه ولا لقول أمه يرجمه جميع رجال مدينته بحجارة حتى يموت، ومن يستخف بأبيه او أمه يصير تحت اللعنة.
أكرِم في العبرية ترجع الى كلمة "كبد" التي تدلّ على الثِقَل والأهميّة، وهي تطلب الإكرام والتمجيد، فعندما يتم تكرِيم الوالدين يمجّد الله الذي أراد لهما هذا الواجب. ومفهوم إكرام الوالدين واسع، يشمل الطاعة والخضوع، وقد ضرب اسماعيل مثلاً حيًا لطاعة أبيه إبراهيم الذي أراد أن يقدمه ذبيحة للرب كأمر الله له؛ وأيضًا المحبة والاحترام ونرى في سليمان الحكيم مثلاً اخر، إذ عندما جاءته والدته "قام الملك للقائها وسجد لها وجلس على كرسيه ووضع كرسيًّا لأم الملك فجلست عن يمينه"، والنجاح أيضًا نوع من إكرام الوالدين، إذ يقول الكتاب المقدس: «الابن الحكيم يُسر أباه، والابن الجاهل حزن أمه».
الوالدان يمثّلان الله بالنسبة إلى اولادهما، اذ هما يشاركان الله في عمل الخَلْق، والبركة التي أعطاها الرب للإنسان المخلوق على صورته، تقوم في إعطاء الحياة للاولاد، ومشاركة الله في عمل الخلق. وواجب الإكرام هذا يتوجّه إلى الجميع دون استثناء، لأنّ العائلة لم تكن تقتصر على الوالدَين والأولاد، كما نعرفها في العالم المتحضّر، بل كانت تشمَل الأجداد والآباء والعمُومة... وكانوا كلّهم يعيشون في ميراث الآباء. وأنّ واجبات الأولاد نحو الأب تساوي واجباتهم نحو الأمّ.
يعبّر الكتاب المقدّس عن الإكرام الواجب للأهل بطرق متعدّدة، واولُها الطاعة التي هي خضوع لإرادة الله عَبر إرادة الوالدين. يحدّثنا سفر الأمثال بهذا الصدد: «إسمع يا بنيّ تأديبَ أبيك ولا تنبِذْ ما توصيك به أمّك» أمّا سفرُ يشوع بن سيراخ ففيه النصائح العديدة عن إكرام الأولاد لوالديهم. فهو يقول: «من أكرم أباه فإنّه يكفّر خطاياه وتُستجاب صلاته، ومن احترم أمّه فهو كمدّخِر الكنوز. من أطاع أباه طالت أيّامه. أكرم أباك وامّك بقولك وفعلك، لكي تحلّ عليك البركة. فإنّ بركة الأب توطّد بيوت البنين، ولعنة الأمّ تقلعَ أسسها».
الوصية السادسة: لا تقتل
هذه الوصية تؤكد حرمة اراقة الدم بغير حق،اذ الله لا يطيق أن يرى الدم البريء مسفوكاً بلا ذنب، لذلك يقول لقايين ابن ادم الذي قتل اخاه: «صوت دم أخيك صارخ من الأرض».
الفعل العبرانيّ "رصح" يلفظ في العربيّة: رضح، «أي رضّ الرأس بالحجارة، وتراضحوا اي ترامَوا بالحجارة او بالنشاب» يدلّ على قتل شخص بصورة متعمّدة او غير متعمدة، وهو يتميّز عن فعلين. الأول: "هرج" «في العربيّة هرج الناس: وقعوا في فتنة واختلاط وقتل» ويدلّ على القتل في زمن الحرب، والثاني: "هميت" من "موت" (في العربيّة أماته) ويدلّ على تنفيذ حُكم الإعدام بشخص من الأشخاص.
الله الذي اوصى بعدم القتل صرح به في حالات معينة، بل امر به، اذ جعل القتل عقوبة واجبة التنفيذ على من يقترف بعض الذنوب مثلا بالنسبة للزناة وللقاتل نفسه ولضارب أبيه او أمه او شاتمهما، والمجدف على اسم الرب.
والقتل انواع فهناك من يقتل بلسانه كما ورد في العهد القديم: «لسانهم سيف قتّال»، وهناك قتل بالمسوؤلية كإنسان يترك ثوره النطَّاح ينطح آخر فيقتله.
وقد توسع البعض في مفهوم القتل بحيث جعل بعض الامور الاخرى مصداقا للقتل، مستندا بذلك على ما جاء في سفر يشوع بن سيراخ حيث يذكر: «من قدّم ذبيحة من مال المساكين، فهو كمن يذبح الابن أمام أبيه. خُبز المُعْوِزين حياتهم، فمن أمسكه عليهم، فإنّما هو سافك دماء. من يخطف مَعاشَ القريب يقتلْه، ومن يُمسك أجرة الأجير يسفُك دمه».
الوصية السابعة: لا تزنِ
الفعل العبرانيّ "نأف" يدل على العلاقات الزوجيّة بين رجل وامرأة متزوّجة او مخطوبة، وهكذا تمنع الوصيّة السابعة من خيانة الرباط الزواجيّ، ومن خانه استوجب عليه حكم الموت، حيث جاء في سفر اللاويين «أيّ رجل زنى بامرأة رجل، فليقتل الزاني والزانية».
والزنا انواع فقد يكون الزنا بالفكر او الشهوة في القلب او شهوة الجسد ويسمى بالشهوة الجسدية وقد حرمت الشريعة اليهودية الزنا الذي يتحقق في الواقع من خلال مقاربة الرجل للمرأة، وكذلك له تسميات عديدة، فهو يسمى زنا وفسق بالنسبة للمتزوجين، ويسمى دعارة وعهارة بالنسبة للمدمنين عليه، ويسمى بغاء بالنسبة للمشتغلين به والمرتزقين عليه و....
وكانت الشريعة اليهودية تعامل المخطوبةَ معاملتَها للمتزوّجة، والعقابُ للزنا مع امرأة مخطوبة كالعقاب مع المتزوّجة.
ويعتقد البعض أن الوصيّة التي نحن بصددها لا تشير إلى علاقة رجل بامرأة غير متزوّجة او مخطوبة، او بَغِي، كما لا تشير بصورة عامّة الى البَغاء والفجور وفساد الأخلاق، بل تشدّد على احترام الزواج، لأن المرأة مُلك الرجل، ومن مسَّها مسّ مُلكيّة الرجل لها. في مثل هذه الحالة الاجتماعيّة التي عرفت تعدّد الزوجات، الزانيةُ هي فقط المرأة المتزوّجة، والرجلُ لا يزني إلاّ مع امرأة متزوجة.
وذهب البعض الى ايجاد نوع من المشابهة بين الوصية الأولى وهذه الوصية، فالوصية السابعة الإجتماعية مثل الوصية الأولى المطلقة والتي تتطلب الاخلاص في العلاقة مع الله، كذلك الوصية السابعة تتطلب علاقة مماثلة من الاخلاص داخل العهد من الزواج. ولكن هذا المعنى الضيّق سيتوسّع، فينظر الكتاب الى الزنا والبغاء نظرةَ لوم، فيعتبرهما خيانةً تمزّق الزواج الذي أسسّه الله. فالزواج يفترض الأمانة، وهي التي تؤدي الى دوام الحياة الأسرية واستمراريتها.
كما انه ليست هناك خطيئة بشعة يكرهها الله مثل الزنا، حتى دعيت في الكتاب المقدس «نجاسة» بها تتنجس النساء، ومن فرط بشاعتها دعيت عبادة الاوثان زنا.
وتتوسّع كتبُ الحكمة في الحديث عن موضوع الزنا، فتنبّه المرأة وتحذّر الرجل من إغواء المرأة الغريبة، وتدعوه الى التعلّق بزوجته «فتكون له الظبيةَ المحبوبة والوعلة الحنون، يُرويك وَدادُها في كلّ حين، وبحبّها تَهيمُ على الدوام.»
وتحذر كذلك من الله تعالى يرى هذا العمل القبيح وان كنت تخاف ان تفضح في المجتمع فالله احق من ان يخاف ويتقى، وهذا المعنى نجده في سفر يشوع بن سيراخ حيث يقول: «إنّ الزاني يخاف عيون البشر، ولا يعرف أنّ الله يرى ويعلم كل شيء»
الوصية الثامنة: لا تسرق
قال بعض العلماء في تعريف السرقة: هي عدم احترام حقوق الغير وملكيته. وتؤلّف هذه الوصية مع الوصيتين السابقتين مجموعة من المحظورات، تكوّن أسساً يرتكز عليها المجتمع. لا تقتل، فالحياة مقدّسة. لا تزن، فالزواج مقدّس. لا تسرق، فحقّ المُلكيّة مقدّس.
والسرقة ليست هي أخذ مال الغير مطلقاً، بل سلبه اياه من غير رضا، وقد اباحت الشريعة أحيانا التصرف بمال الغير وملكيته بشكل قليل وفي حالات نادرة، منها ما جاء بخصوص تناول الثمار من حقل الغير، فالشريعة تقول: «إذا دخلت كرم صاحبك فكلْ عنبًا حسب شهوة نفسك، شبعتك، ولكن في وعائك لا تجعل. إذا دخلت زرع صاحبك، فاقطف سنابل بيدك، ولكن منجلاً لا ترفع على زرع صاحبك». فهذا مع انه بالظاهر تجاوز على حقوق الغير الا ان الشريعة اليهودية أجازته ولم تعتبره سرقة.
وتختلف بشاعة هذه الخطيئة وفقا لمقتضياتها، فكلما كان المسروق منه فقيرا ومحتاجا كلما كان الفعل أقبح، وايضاً لا تقاس بشاعة السرقة بمقدار الشيء المسروق، بل بإهميته بالنسبة لصاحبه، كسرقة ابرة الخياط او فرشة الرسام، فمع تفاهة قيمتها ولكنها مهمة بالنسبة اليهم فقد تؤدي الى حرج او تعطيل عملهم لهذا تعتبر أقبح وأبشع.
وقد ذهب البعض الى ان المراد من السرقة هنا هو سرقة الانسان دون الاشياء الاخرى، وهي عادة كانت مشهورة في ذلك الزمان فجاءت هذه الوصيّة تمنع الانسان من سرقةَ الأشخاص واعتبرته عملاً أكثر خطورة فقد جاء في سفر التثنية: «من سرق إنساناً من إخوته فجعله عبدًا عنده او باعه، فليقتل الخاطف.» لذلك امر الله تعالى بني إسرائيل بإجتناب هذا العمل الشائن.
وفي العهد القديم لم يكن يكفي رد المسروق بل التعويض عنه اضعافاً في كثير من الاحيان، وكانت الماشية هي أثمن ممتلكات ذلك العصر، لهذا اوصى الرب ان يعاقب السارق بردها اضعافاً، فقد جاء في سفر الخروج: «إذا سرق إنسان ثورًا او شاة فذبحه او باعه يعوض عن الثور بخمسة ثيران وعن الشاة بأربعة من الغنم. إن وجد السارق وهو ينقب فضرب ومات فليس له دم.»
الوصية التاسعة: لا تشهد على قريبك شهادة زور
كلمة "شهادة" هي في العبريّة "عد"، وهي ترجع الى فعل معناه «أعلن رسميًّا، عدّد» وترجمت الكلمة الى السُريانيّة فكانت "سهدوتو" (ومنه الشهادة في العربيّة، أي معاينة الشيء والاطّلاع عليه والإخبار به) بمعنى الشهادة والوصيّة والتنبيه. اما كلمة "شقر" التي نترجمها بالزّور، تدلّ على الكذب، والفعل السريانيّ يدل على الكذب والإفك والمكر والخداع، كل هذا يعني أنّ الوصيّة التاسعة لا تقتصر على شهادة زور أمام المحكمة، او على أيّة سلطة وحسب، بل على كل أنواع الكذب والخداع والمكر والنميمة.
وهذه الوصية تعني عدم التصرّف مع قريبك كشاهد زور، والشهادة بالزور تعني الكذب، ومن يكذِب يعاقب، إذ احياناً يُدلي الإنسان بشهادة أمام القاضي وهي كذب ومخالفة للواقع مما يؤدي الى ضياع حقوق الآخرين، يقول سفر التثنية: «إن كان الشاهد شاهدَ زور، وقد شهد بباطل على أخيه، فاصنعوا به كما نوى أن يصنع بأخيه».
واتخذت الشريعة قيوداً احترازية لشهادة الزور، فمنعت القاضي أن يحكم على شخص دون شاهدين او ثلاثة: «على فم شاهدين او ثلاثة تقدم كل كلمة.» وإذا حُكم على المتّهم بالإعدام رجمًا، طلب الى الشهود أن يرموه بالحجر الأول، فإن كانوا شهود زور يصيبهم ما أصابه. وقد اشار سفر الامثال الى انه لا يجوز الإدلاء بشهادة مخالفة للواقع سواءً كانت لابراء مذنب او تذنيب بريء، يقول بهذا الخصوص: «مبرئ المذنب، ومذنب البريء، كلاهما مكرهة للرب».
الوصية العاشرة: لا تشته بيت قريبك ولا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئاً مما لقريبك
هذه الوصية ترتبط بالامور النفسية عند الانسان، وقد اكدت على ان الشهوة هي أم كل محظور، وكشفت هذه الوصية عن عمق الشريعة اليهودية، اذ إنها أرادت أن تقتل الخطيئة من جذورها . فالزنا يبدأ بشهوة الجسد، والسرقة تبدء بشهوة الاقتناء او حب المال،والكذب يبدء بشهوة تبرير الذات، و....فان حارب الانسان الشهوة وانتصر عليها يكون قد انتصر على كل الخطايا، وهناك حكمة تقول: «افرحوا، لا لشهوة نلتموها، بل لشهوة اذللتموها».
الفعل العبريّ "حمد" يعني اشتهى الشيء ورغب فيه وتلذّذ به. هو يدلّ على عاطفة داخليّة واستعداد باطنيّ، لوضع يدنا على شيء نشتهيه. وهكذا تدخل الشَهوة في القلب قبل أن تُتَرجم عملاً. فالانسان يتطلع إلى ما هو ثمين وأهلٌ للثَناء والحمد، يتمنّى ويعمل ليكون ملكاً له. هذه العاطفة الداخليّة يعبّر عنها سفر التثنية بفعلين: الأول (حمد) يتعلّق بامرأة القريب، والثاني (تاوه) يتعلّق ببيت القريب وحقله وعبده وأمَته وثوره وحماره.
نص الوصية في سفر الخروج يذكر المرأة بعد البيت وقبل العبد، فيجعلها أحد متاع الرجل. أمّا سفر التثنية فيجعلها في رأس اللائحة، وكأنّه بذلك يجعل من هذه الوصية العاشرة وصيتين متميزتين. ونجد في هذا النص تطوّراً في النظر الى المرأة، فلم تعد الزوجة مجرّد متاع للزوج. بل على المرأة من الواجبات ما على الرجل.
إن اشباع الشهوات لا يؤدي اطلاقا الى زوالها واخمادها، بل على العكس كلما اوغل الانسان في اشباعها كلما طلبت المزيد، فهذا سليمان النبي الحكيم يقول انه اعطى كل ما طلبته نفسه: «مهما اشتهته عيناي لم امسكه عنهما، ولا منعت قلبي من الفرح شيئاً» ولكنها لم تشبع او ترتوي، اذ تنقل أسفار العهد القديم انه كانت له الف امرأة: «واحب الملك سليمان نساء غريبة كثيرة مع ابنة فرعون... وكان له سبعمائة زوجة وثلاثمائة من السراري...» ولكنه مع ذلك ذكر عبارته الخالدة «العين لا تشبع من النظر، والاذن لا تمتلئ من السمع...»
فالشهوات قد تؤدي بالانسان الى الهلاك، وخير مثال على ذلك تململ بني إسرائيل من عدم تنوع الطعام واشتهائهم للطعام الذي كان في مصر من السمك والقثاء والبطيخ، فقد جاء في سفر العدد:
«واشتهى الخليط الذي فيما بينهم شهوة، وعاد بنو إسرائيل الى البكاء وقالوا: من يطعمنا لحماً؟ فاننا نذكر السمك الذي كنا ناكله في مصر مجاناً، والقثاء والبطيخ والبصل والثوم، والان حلوقنا جافة ولا شيء ناكله غير المن...وقد ساء ذلك موسى وطلب من الله ان يميته ... فانزل الله السلوى على بني إسرائيل ... وبينما كان اللحم بين اسنانه اذ غضب الرب على الشعب فضربه ضربة شديدة جداً، فسمي ذلك المكان (قبروت هتاوه) لانهم دفنوا فيه الناس الذين اشتهوا شهوة.»
وبخاتمة هذه الوصية تختم الوصايا العشر التي اوحاها الله تعالى الى نبيه وكليمه موسى × وكانت بمثابة الاطار العام للشريعة اليهودية، ولذلك نجدها تكررت مرتين، وهذه الوصايا لها الاثر الكبير على سلوك اليهود بل والمسيحيين ايضاً، وقد صدر مؤخرا كتابا للكاتب الامريكي بروس فيلر أثار جدلا واسعا مؤخراً في امريكا تحت عنوان: "نبي الولايات المتحدة.. موسى وقصة أمريكا" ذكر فيه: «الأمريكيون متأثرون بوصايا موسى أكثر من تعاليم المسيح !»
المبحث الثالث: مقارنة بين سفري الخروج والتثنية
بعد أن عرضنا الوصايا العشر في العهد القديم إتضحت أمور فارقة بين سفري الخروج والتثنية ومن أبرزها ما يلي:
1- يعلل سفر الخروج بأن تقديس يوم السبت يرجع الى أن الرب استراح فيه بعد أن تعب من الخلق ومعلوم أن هذا قد ردّ عليه القرآن الكريم في قول الله عزوجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} أما سفر التثنية فيعلل التقديس بأنه يوم راحة كرمز للإستقلال بعد ما كان يلاقي فيه بنو إسرائيل بمصر من هوان وعذاب وبهذا فإن سفر التثنية لا يعارض القرآن الكريم في هذا.
2- بر الوالدين كوصية هامة يجعلها سفر الخروج ضمن مجموعة العلاقة مع الغير، أما سفر التثنية فيجعله ضمن علاقة الإنسان بربه وهذا يتمشى مع القرآن الكريم الذي فيه أمر الله بالإحسان بالوالدين بعد أمره بعبادته مباشرة.
3- يضع سفر الخروج المرأة ضمن المتاع كما تقدم، أما سفر التثنية فيضعها على رأس القائمة فلذا ينظر الى المرأة بشيء من الإحترام.
4- سفر التثنية عندما يشرح لا تشتهي زوجة قريبك يأتي بنصوص كما تقدم تتمشى في مفهومها مع ما جاء به الإسلام من زنى العينين وغير ذلك. زد عليه أن سفر التثنية ينهى عن الرياء في الصدقة والصلاة وغيرها من العبادات ويدعو الى عدم كنز المال ومن يقرأ فيه هذا كأنما يقرأ شرحاً لبعض آيات القرآن الكريم، وزد عليه ان صورة التوحيد والتنزيه فيه واضح بعكس ما جاء في سفر الخروج من تجسيد ومشابهة فاضحة.
الفصل الثالث
الوصايا العشر في العهد الجديد
ويتضمن مباحث:
المبحثالأول: النظرة المسيحية للشريعة اليهودية والوصايا العشر
المبحث الثاني: معالجة العهد الجديد للوصايا العشر
المبحث الثالث: مقارنة بين العهدين (القديم والجديد)
تمهيد
سنتطرق في هذا الفصل الى الوصايا العشر في المسيحية ونقاط الإشتراك والإختلاف بينها وبين ماذكرناه في اليهودية وكيف أن المسيح × حافظ على هذه الوصايا وهذبها وعمقها في تعاليمه بعد أن كادت أن تندرس وتفقد بريقها في المجتمع اليهودي على يد علماء اليهود من الفريسيين والصديقيين الذين عاصروا المسيح ×. كما تجدر الاشارة الى أن المسيح وكما هو مشهور كان على شريعة موسى × قبل بعثته بل وامه والحواريون كذلك، وكان من أشد الملتزمين بتعاليم توراة موسى × وطقوسها وشعائرها، وكانت للوصايا العشر مكانة خاصة ومميزة في المجتمع اليهودي بصورة عامة وعند علماء اليهودية بصورة خاصة، ولذلك نجد المسيح في تعاليمه التي تنقلها الاناجيل الاربعة يذكّر دائماً بهذه الوصايا ويؤكد عليها باعتبارها المنهج المستقيم والاساس الذي تبتني عليه الشرائع السماوية سواء من الجانب العقائدي او من الجانب الاخلاقي وبالخصوص في شريعة موسى ×.
وفي هذا الفصل سنشير اولاً الى نظرة المسيحية للشريعة الموسوية بصورة عامة وللوصايا العشر بصورة خاصة، وهل نسخ المسيح شريعة موسى أم لا؟ ثم نتناول الوصايا العشر من وجهة نظر مسيحية من خلال أسفار العهد الجديد وتعاليم آباء الكنيسة.
المبحث الأول: نظرة المسيحية للشريعة اليهودية والوصايا العشر
عندما بعث عيسى × بعد ثلاثة عشرة قرناً من بعثة الكليم موسى × كانت اليهودية قد انتشرت في ربوع فلسطين، وكان المسيح وأمه مريم من اتباع اليهودية، وهذا ما تشير اليه الأناجيل في الكثير من الحوادث التي ذكرتها عن حياة المسيح قبل بعثته × منها ختانه «ولما انقضت ثمانية ايام فحان للطفل ان يختن، سمي يسوع المسيح» وسفره للحج «وكان أبواه يذهبان كل سنة الى اورشليم في عيد الفصح، فلما بلغ اثنتي عشرة سنة صعدوا اليها جرياً على السنّة في العيد»، وتقديم القرابين وفق الشريعة اليهودية «ولما حان يوم طهوره بحسب شريعة موسى، صعدا به الى اورشليم ليقدماه للرب، كما كتب في شريعة الرب من ان كل بكر ذكر ينذر للرب، وليقربا كما ورد في شريعة الرب: زوجي حمام او فرخي حمام» وما الى ذلك.
وعندما بعث عيسى × الى بني إسرائيل أكد انه ما جاء لينقض الشريعة الموسوية، بل ليتممها حيث يقول: «لا تظنوا اني جئت لأبطل الشريعة او الانبياء، ما جئت لأبطل بل لأكمل،الحق اقول لكم: لن يزول حرف او نقطة من الشريعة حتى يتم كل شيء، او تزول السماء والأرض، فمن خالف وصية من اصغر تلك الوصايا وعلم الناس ان يفعلوا مثله، عُدّ صغيراً في ملكوت السماوات، واما الذي يعمل بها ويعلمها فذاك يُعدّ كبيراً في ملكوت السماوات».
ولكن مع هذا التأكيد من جانب المسيح على ضرورة حفظ الشريعة وتعاليمها، الاّ أن المسيحيين يعتقدون أن الشريعة الموسوية كانت صالحة ومطلوبة لفترة زمنية معينة، وقد انتهت تلك الفترة بصلب المسيح ×، إذ عندما صلب المسيح فداءً عن البشرية أبدلت هذه الشريعة بشريعة النعمة كما يشرحها المسيحيون بالقول: «ناموس المسيح او الناموس الكامل "ناموس الحرية" وهو يشمل تعاليم ووصايا النعمة الموجهة الآن لاولاد الله المفديين. ويضيفون: يجب أن نعي تماماً أن المؤمن الآن ليس تحت الناموس بل تحت النعمة، فقد منحته النعمة كل ما يلزم لخلاصه»، ولهذا فالشريعة الموسوية لم تعد صالحة بعد مجيء تعاليم عيسى الجديدة، فان «خمر الإنجيل لا يمكن صبها في آنية عتيقة خاصة بشريعة سيناء.»
ولكن هذا لا يعني أن المسيحية ترفض كل اقسام الشريعة اليهودية، إذ كما هو معلوم فان شريعة موسى تشمل قوانين وتشريعات عدة، لأنها تنظم حياة الشعب في كل القطاعات. فهناك توصيات اخلاقية تبرز خاصة في الوصايا العشر والتي اشرنا اليها في الفصل الثاني، وإنّ تقليد الكنيسة وحرصاً على الكتاب المقدّس وتجاوباً مع تعاليم عيسى، قد أقرّت بأهمّية الوصايا العشر وصدارتها في قوانين الله، ولهذا فهي تلتزم بها وتجعلها دستوراً اخلاقياً لها، لأن المسيح اوصى واستشهد بها. وهناك احكام وقواعد قانونية في شريعة موسى تخص مختلف نواحي الحياة وترتب العمل بنظم المعاملات المدنية (الأسرية، الإجتماعية، الإقتصادية، والقضائية) وتوصيات تخص العبادة في طقوسها وشروط إقامتها وقواعد خاصة بالتطهير والطاهر والنجس وغير ذلك، وهنا تتوقف المسيحية وتعتقد أن شريعة المسيح والنعمة نسخت هذه الشريعة السابقة، فنحن لسنا بحاجة الى شريعة بعد ان افتدى المسيح نفسه من اجل خلاص البشر.
بالاضافة الى هذا فالمسيحيون يعتقدون أن المسيح أكد خلال فترة تبليغه وبعثته جملة من الوصايا اعتبرت اساس الحياة الإيمانية بالنسبة لأتباعه من بعده، بعضها يرتبط بشكل مباشر بالوصايا العشر والبعض الاخر يعتبر مواعظ اخلاقية، وهناك من يعتقد أن المسيح لم يأتِ بشريعة جديدة لتحل محل القديمة بل هناك طريقة جديدة تماماً، طريقة إنجيلية في ممارسة الوصايا وهي أن نعيشها كأبناء في الإبن الوحيد (لقب للمسيح)، وهناك نصوص اخلاقية كثيرة نقلتها الأناجيل الأربعة عن المسيح لا ترتبط بشكل مباشر بالوصايا العشر، ولكن تبقى لموعظة المسيح على الجبل او ما يسمى بالتطويبات ميزة ومكانة خاصة في التعليم الاخلاقي للمسيح، إذ يعتبرها البعض بداية تعاليم العهد الجديد ونقطة افتراق بين شريعة موسى والمسيح، فالبعض يُشبِّه عيسى وهو يَعِظ على الجبل، بموسى وهو يُعِلن للعبرانيين في سيناء شريعة الرب. وكما أن موسى بدأ إعلانه الشريعة بالوصايا العشر، كذلك بدأ المسيح إعلانه بـ "التطويبات" التي هي شريعة العهد الجديد، إنها خلاصة ما سيقوله المسيح ويُعلِّمه في أثناء حياته الأرضية وما سيعيشه، فهي بمثابة الإنتقال من مُلْك الشريعة إلى شريعة الملكوت، و"الجبل" هو تلميح إلى جبل سيناء الذي عليه تقبّل موسى الشريعة، فعلى الجبل الذي وقف عليه المسيح كانت تُدوّي كلمة الله نفسها التي دوّتْ على جبل سيناء لتعطي موسى الشريعة المكتوبة والتي تُسمع أيضاً على جبل التطويبات.
وقد ذكرت هذه التطويبات في إنجيلي متى ولوقا فقط، وهناك وجوه اختلاف كثيرة بين النقلين. فمتى في إنجيله يستهلُّ خُطبة طويلة من ثلاثة فصول تسمى عظة الجبل لأن المسيح وعظ بها وهو على الجبل. ولكن لوقا يستهل خُطبة "السهل" لان المسيح وعظ بها في مكان منبسط، وهي أقصر بكثير مما نقله متى. إذ هناك فرق بعدد التطويبات، وهناك فرق في المضمون، فالداعي إلى السعادة يختلف بين متى ولوقا، إذ يتصور لوقا اوضاعاً شاقة: طوبى للفقراء... طوبى لكم أيها الجائعون... بينما ينظر متى إلى مواقف باطنية وأحوال روحية: طوبى لفقراء الروح... طوبى للجياع والعطاشى إلى البر... الخ. وقد أضاف لوقا أيضاً موازاة للتطويبات الأربع "طوبى لكم" أربع مرات "الويل لكم"، بخلاف متى الذي لم يذكرها اطلاقا، وهذه الويلات موجَّهة إلى من يضع ثقته بنفسه وأمواله وإلى من يعتقد بأن سعادته تكمن في رَغَد الحياة وملذاتها.
فقد جاء في إنجيل متى حول هذه الموعظة ما نصه:
«فلما رأى الجموع صعد الجبل وجلس، فدنا إليه تلاميذه فشرع يُعلِّمهم قال:
ــ طوبى لفقراء الروح فإنّ لهم ملكوت السماوات.
ــ طوبى للودعاء فإنهم يرثون الأرض.
ــ طوبى للمحزونين فإنهم يُعزَّون.
ــ طوبى للجياع والعِطاش إلى البر فإنهم يُشبَعون.
ــ طوبى للرحماء فإنهم يُرحمون.
ــ طوبى لأطهار القلوب فإنهم يشاهدون الله.
ــ طوبى للساعين إلى السلام فإنهم أبناء الله يُدعَون.
ــ طوبى للمُضطهدين على البِرّ فإن لهم ملكوت السماوات.
ــ طوبى لكم، إذا شتموكم واضطهدوكم وافتروا عليكم كل كذِب من أجلي، افرحوا وابتهجوا: إنّ أجركم في السماوات عظيم، فهكذا اضطهدوا الأنبياء من قبلكم».
أما لوقا فإنه ذكر التطويبات مع بعض الاختلاف في المكان كما ذكرنا، فالمسيح كان في مكان منبسط (سهل) عند ذكره للموعظة بخلاف ما ذكره متى من انه كان على جبل، يقول لوقا:
« ثم نزل معهم فوقف في مكان منبسط ... ورفع عينيه نحو تلاميذه وقال:
ــ طوبى لكم أيها الفقراء فإن لكم ملكوت الله.
ــ طوبى لكم أيها الجائعون الآن فسوف تُشبعون.
ــ طوبى لكم أيها الباكون الآن فسوف تضحكون.
ــ طوبى لكم إذا أبغضكم الناس ورذلوكم وشتموا اسمكم ونبذوه على أنه عار من أجل ابن الإنسان. افرحوا في ذلك اليوم واهتزوا طرباً، فإن أجركم في السماء عظيم. فهكذا فعل آباؤهم بالأنبياء.
ثم يضيف لوقا ما لم يذكره متى في إنجيله من توبيخ في موازاة تلك التطويبات فيقول:
ــ الويل لكم أيها الأغنياء فقد نلتم عزاءكم.
ــ الويل لكم أيها الشِباع الآن فسوف تجوعون.
ــ الويل لكم أيها الضاحكون الآن فسوف تحزنون وتبكون.
ــ الويل لكم إذا مدحكم جميع الناس فهكذا فعل آباؤهم بالأنبياء الكذابين».
بالاضافة الى هذا فان المسيح × ومن خلال تعاليمه عالج بعض الامراض الاخلاقية التي كانت سائدة في المجتمع آنذاك، فمثلاً عالج مسالة الرياء والتي لم تذكر في الوصاياالعشر، ينقل متى بهذا الصدد قول المسيح لتلاميذه في موعظته على الجبل ايضاً:
«احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكي ينظروكم، وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السماوات، فمتى صنعت صدقة فلا تصوت قدامك بالبوق، كما يفعل المراؤون في المجامع وفي الأزقة، لكي يمجدوا من الناس. الحق أقول لكم: إنهم قد استوفوا أجرهم، وأما أنت فمتى صنعت صدقة فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينك، لكي تكون صدقتك في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء هو يجازيك علانية»
وكذلك عندما يحثّ على الصلاة فإنه × ينهاهم عن الرياء لانه مبطل لها، يقول متى في إنجيله: «متى صليت فلا تكن كالمرائين،فإنهم يحبون أن يصلوا قائمين في المجامع وفي زوايا الشوارع، لكي يظهروا للناس. الحق أقول لكم: إنهم قد استوفوا أجرهم، وأما أنت فمتى صليت فادخل إلى مخدعك وأغلق بابك، وصل إلى أبيك الذي في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية»
بالاضافة الى هذا فإن عيسى × أشار الى قيم اخلاقية رفيعة اُخرى في هذه الموعظة أرى من المناسب ذكرها هنا كونها لاترتبط بشكل مباشر بالوصايا العشر، ولكنها تعتبر من اهم المواعظ والوصايا الأخلاقية التي أشار اليها المسيح في تعاليمه، وهي تبين بشكل واضح الهدف من بعثته، حيث يقول عيسى ×:
«ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين، فإنهم يغيرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين. الحق أقول لكم: إنهم قد استوفوا أجرهم. وأما أنت فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك، لكي لا تظهر للناس صائما، بل لأبيك الذي في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية.
لا تكنزوا لكم كنوزاً على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ،وحيث ينقب السارقون ويسرقون، بل اكنزوا لكم كنوزا في السماء، حيث لا يفسد سوس ولا صدأ، وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون، لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضاً. سراج الجسد هو العين، فإن كانت عينك سليمة فجسدك كله يكون نيرا، وإن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلماً، فإن كان النور الذي فيك ظلاما، فالظلام كم يكون!
لا يقدر أحد أن يخدم سيدين، لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر، او يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال.
لذلك أقول لكم: لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا لأجسادكم بما تلبسون. أليست الحياة أفضل من الطعام، والجسد أفضل من اللباس؟ انظروا إلى طيور السماء، إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن، وأبوكم السماوي يقوتها. ألستم أنتم بالحري أفضل منها؟ ومن منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعا واحدة؟ ولماذا تهتمون باللباس؟ تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو! لا تتعب ولا تغزل. ولكن أقول لكم: إنه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها. فإن كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم ويطرح غداً في التنور، يلبسه الله هكذا، أفليس بالحري جداً يلبسكم أنتم يا قليلي الإيمان؟
فلا تهتموا قائلين: ماذا نأكل ؟ او ماذا نشرب ؟ او ماذا نلبس؟ فإن هذه كلها تطلبها الأمم. لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها. لكن اطلبوا اولاً ملكوت الله وبره، وهذه كلها تزاد لكم. فلا تهتموا للغد، لأن الغد يهتم بما لنفسه، يكفي اليوم شره.
لا تدينوا لكي لا تدانوا، لأنكم بالدينونة التي بها تدينون تدانون، وبالكيل الذي به تكيلون يكال لكم. ولماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك، وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها؟ أم كيف تقول لأخيك: دعني أخرج القذى من عينك، وها الخشبة في عينك؟ يا مرائي، أخرج اولاً الخشبة من عينك، وحينئذ تبصر جيدا أن تخرج القذى من عين أخيك! لا تعطوا القدس للكلاب، ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير، لئلا تدوسها بأرجلها وتلتفت فتمزقكم.
اسألوا تعطوا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يفتح لكم. لأن كل من يسأل يأخذ، ومن يطلب يجد، ومن يقرع يفتح له. أم أي إنسان منكم إذا سأله ابنه خبزا، يعطيه حجرا؟ وإن سأله سمكة،يعطيه حية؟ فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا اولادكم عطايا جيدة، فكم بالحري أبوكم الذي في السماوات، يهب خيرات للذين يسألونه! فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضا بهم، لأن هذا هو الناموس والأنبياء.
ادخلوا من الباب الضيق، لأنه واسع الباب ورحب الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك، وكثيرون هم الذين يدخلون منه! ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة، وقليلون هم الذين يجدونه!
احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان، ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة!
من ثمارهم تعرفونهم. هل يجتنون من الشوك عنبا، او من الحسك تينا؟ هكذا كل شجرة جيدة تصنع أثماراً جيدة، وأما الشجرة الردية فتصنع أثماراً ردية، لا تقدر شجرة جيدة أن تصنع أثماراً ردية، ولا شجرة ردية أن تصنع أثمارا جيدة. كل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار. فإذاً من ثمارهم تعرفونهم.
ليس كل من يقول لي: يا رب، يا رب! يدخل ملكوت السماوات. بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السماوات. كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب، يا رب! أليس باسمك تنبأنا، وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ فحينئذ أصرح لهم: إني لم أعرفكم قط! اذهبوا عني يا فاعلي الإثم!
فكل من يسمع أقوالي هذه ويعمل بها،أشبهه برجل عاقل، بنى بيته على الصخر. فنزل المطر، وجاءت الأنهار وهبت الرياح، ووقعت على ذلك البيت فلم يسقط، لأنه كان مؤسّساَ على الصخر. وكل من يسمع أقوالي هذه ولا يعمل بها، يشبه برجل جاهل، بنى بيته على الرمل. فنزل المطر، وجاءت الأنهار، وهبت الرياح، وصدمت ذلك البيت فسقط وكان سقوطه عظيماً».
وهذه الوصايا والتعاليم التي وعظ بها المسيح × تسمى بالشريعة الأخلاقية، ترسم للإنسان سبل السلوك الاخلاقي والعبادي وقواعده التي تقوده إلى السعادة الموعودة.
وهناك تعاليم اخلاقية اخرى أشار اليها المسيح في تعاليمه سنسلط عليها الضوء في المبحث القادم عند الحديث عن الوصايا العشر لانها ترتبط بشكل مباشر بها، ولهذا يمكن القول ان الهدف الأساسي من بعثة المسيح × هو نشر القيم الأخلاقية في المجتمع مع التأكيد على ضرورة الالتزام بالأحكام الشرعية والعبادية في شريعة موسى ×.
المبحث الثاني: معالجة العهد الجديد للوصايا العشر
في هذا المبحث سنتناول موقف المسيح × والمسيحية الحالية من الوصايا العشر التي جاء بها موسى × وهل أقرها المسيح في تعاليمه ومواعظه ام انه اختصرها او أبدلها بتعاليم أخرى، او أنه قبلها وثبتها وعمّق مفاهيمها؟
إن المسيحية اليوم تقر أن المسيح رسخ مفهوم الوصايا في تعاليمه بشكل واضح، وان كان قد اعطاها بعداً روحياً ومعنوياً أكثر مما كانت عليه، وأمر اتباعه بحفظها واقتبسها في مواقف مختلفة، حيث يقول: «إن كنتُم تحبّونَني فاحفظوا وصايايَ...الذي عندَهُ وصايايَ ويحفَظُها فهو الذي يُحبُّني»
وكما ذكرنا في الفصل السابق فإن الكلمات العشر اوصى بها الله إلى شعب بني إسرائيل على الجبل وقد كتبها " بإصبعه " بخلاف الفرائض الأخرى التي كتبها موسى، تعتقد المسيحية أن معناها الكامل إنما كشف عنه في العهد الجديد في تعاليم المسيح. وتؤلّف الوصايا العشر وفقاً للمسيحية كلاً لا يتجزّأ، وكلّ وصية ترجع إلى كل واحدة أخرى وإليها جميعاً، ومخالفة أي وصية، مخالفة لها كلّها. فقد جاء في العهد الجديد على لسان يعقوب راعي كنيسة اورشليم: « لان من حفظ كل الناموس و انما عثر في واحدة فقد صار مجرماً في الكل لان الذي قال لا تزن قال ايضاً لا تقتل فان لم تزن و لكن قتلت فقد صرت متعدياً الناموس» فلا يمكن إكرام الآخرين دون مباركة الله خالقهم، ولا يمكن عبادة الله دون محبة جميع الناس.
وقد جرت العادة كما ذكرنا سابقا أن تقسم الوصايا، باعتبار الموضوع، إلى لوحين، يحتوي اولهما على أربع وصايا، والثاني على ست ولكن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية ومعها الكنيسة اللوثرية، حذتا حذو اوغسطين في تقسيم الوصايا، وجعلتا الوصايا الثلاث الأولى ــ بعد دمج الوصية الأولى والثانية في وصية واحدة ــ في اللوح الأول، والوصايا السبع الأخيرة في اللوح الثاني، بعد تقسيم الوصية العاشرة إلى وصيتين "لا تشته بيت قريبك" و "لا تشته امرأة قريبك"؛ ولا يختلف الأرثوذكس في تقسيم هذه الوصايا وتفسيرها عن الكاثوليك.
ولقد استشهد المسيح بنص بعض الوصايا كما ذكرت في أسفار العهد القديم، فينقل لنا مرقس في إنجيله هذا الحوار بين المسيح وبين شابّ أراد نيل السعادة الأبدية والفلاح فيقول: «سأله الشاب: ايها المعلم الصالح ماذا أعمل لارث الحياة الابدية ؟ فقال له يسوع لماذا تدعوني صالحاً ليس احد صالحاً الا واحد و هو الله، انت تعرف الوصايا لا تزن، لا تقتل، لا تسرق، لا تشهد بالزور، لا تسلب، أكرم اباك وأمك، فاجاب و قال له: يا معلم هذه كلها حفظتها منذ حداثتي، فنظر اليه يسوع وقال له: يعوزك شيء واحد اذهب وبع كل ما لك واعطه للفقراء فيكون لك كنز في السماء و تعال اتبعني حاملا الصليب، فاغتمّ على هذا القول و مضى حزيناً لانه كان ذا اموال كثيرة، فنظر يسوع حوله و قال لتلاميذه: ما اعسر دخول ذوي الاموال الى ملكوت الله، و قال لهم: مرور جمل من ثقب ابرة ايسر من ان يدخل غني الى ملكوت الله.»
وفي بعض الكنائس القديمة، كانت تُدوَّن الكلمات العشر على لوحتين توضعان غالباً بالقرب من المنبر، اللوحة الأولى تتضمّن الوصايا التي تختصّ بعلاقة الإنسان بالله، واللوحة الثانية، الوصايا التي تختصّ بعلاقة الإنسان بالجماعة البشريّة. مستندين على رواية الكتاب المقدّس التي تذكر أنّ الله قد أعطى موسى الوصايا العشر على لوحين.
وقد لخص المسيح الوصايا العشر في وصيتين هما وصيّة محبّة الله والقريب: «أحبب الربّ إلهك بكلّ قلبك، وكلّ نفسك، وكلّ ذهنك، وكلّ قوّتك. والوصيّة الثانية هي هذه: أحببْ قريبَك كنفسك. ليس مِن وصيّة أخرى أعظم من هاتين» إنّ وصيّة محبّة الله والقريب لا تلغي كلمات العهد القديم العشر، بل انها تكمّلها من المنظار المسيحي. وفي نظر بولس، محبّة القريب هي ملخّص الوصايا حيث يقول: «مَن أحبّ القريب قد أتمّ الناموس. فإنّ هذه الوصايا: لا تزْنِ، لا تقتلْ، لا تسرقْ، لا تشهدْ بالزور، لا تشتَهِ.. وكلّ وصيّة أخرى، تُلخَّص في هذه الكلمة: "أحببْ قريبَك كنفسك»
وقد أعلنت الكنيسة عبر القرون "قانون إيمانها الأخلاقي". وهي ترى أن هذه الوصايا هي توجيهات معطاة من قِبل الله في سبيل حياة يقضيها الانسان في محبّة الله والبشر وهي مقدورة للانسان وفي استطاعته، وهي خالدة وتصح على مر الزمان، حيث جاء في سفر التثنية:
«هذه الوصيّة التي أنا آمرك بها اليوم ليست فوق طاقتك ولا بعيدة منك. لا هي في السماء فتقول: مَن يصعدُ لنا إلى السماء فيتناولها لنا ويُسمعنا إيّاها فنعمل بها؟ ولا هي عَبرَ البحر فتقول: من يعبرُ لنا البحرَ فيتناولها لنا ويُسمعنا إيّاها فنعمل بها؟ بل الكلمة قريبة منك جدّاً، فهي في فمك وفي قلبك لتعملَ بها»
إن الوصايا العشر بالنسبة للمسيحية تعتبر كلمات الله، فهي تنطبق تماماً تقريباً مع الوصايا في العهد القديم باعتبار أن المسيحية تؤمن بوحيانية العهد القديم، مع الاختلاف بالنسبة ليوم السبت والذي يفسره المسيحيون تفسيراً روحانياً كما سنشير اليه، وتعتقد أن المسيح اوصى بالمحافظة على الوصايا العشر مع تعميق مفهومها، ومما يجب الاشارة اليه أن مجموع الوصايا لم تذكر في العهد الجديد سوى النصف الثاني من الوصايا الاخلاقية، وترتيب الوصايا في المسيحية يختلف أيضاً عما هو مذكور في العهد القديم، فترتيبها هو على النحو التالي:
الوصيّة الأولى: أنا هو الربّ إلهك لا يكنْ لك إله غيري
هذه الوصية هي القسم الثاني من الوصية الأولى في العهد القديم وقد تم حذف جملة «الذي اخرجك من ارض مصر بيت العبودية» في الكنيسة الكاثوليكية من تلك الوصية لانها لا تنطبق عليهم ولم يكونوا يوماً في مصر ولم يحررهم الرب من العبودية، بينما بدل البروتستانت الوصية الى «لا يكن لك آلهة اخرى امامي» وهي تشتمل على قسم من الوصية الأولى والثانية.
شعار المسيحية هو التوحيد، وهو نفس شعار اليهودية والاسلام وان كان هناك اختلاف في فهم ذات هذا الاله، فيعتقدون أنه ذو ثلاثة اقانيم (الأب – الأبن – روح القدس)، وهذه العقيدة تسمى عندهم بالتثليث او الثالوث الأقدس، وقد استشهد المسيح نفسه بهذه الوصية وجعلها أساس تعاليمه، ينقل مرقس في إنجيله ماهذا نصه:
«فجاء واحد من الكتبة و سمعهم يتحاورون، فلما راى أنه أجابهم حسناً سأله اية وصية هي اول الكل ؟ فاجابه يسوع: إن اول كل الوصايا هي اسمع يا إسرائيل الرب الهنا رب واحد، وتحب الرب الهك من كل قلبك و من كل نفسك و من كل فكرك و من كل قدرتك هذه هي الوصية الأولى» .
وفي ايام المسيح كان الايمان اليهودي يختصر في عبارة واحدة وهي " الله احد" واجمع علماء اليهود على اهميتها فقالوا: «إن إدانة عبادة الاصنام تفوق في اهميتها جميع وصايا التوراة، واقروا أنه يمكن للمؤمن أن يخالف جميع وصايا التوراة اذا تعرضت حياته للخطر، لكنه لا يحق له باي حال من الاحوال عبادة الاصنام.»
ولهذا تدعو الوصيّة الأولى إلى الالتزام ضدّ الآلهة المزيفة، والاعتراف بمَن هو وحده إله السماء والأرض، وذهب المسيح في تعاليمه الى ابعد من التمسك الظاهري بالابتعاد عن الاصنام والآلهة المزيفة، بل جعل بعض انواع من التعلق غير الصحيح نوع من الشرك واعتبرها عبادة لغير الله تعالى، ولذلك نرى في تعاليمه النهي عن الكثير من الامور التي ممكن أن يتعلق بها الانسان بشكل كبير فتكون بمثابة آلهة تعبد مع الله، وتكون شكلاً من أشكال عبادة الأصنام، فقد حذر المسيح من الغنى الذي يقود الإنسان إلى أن يجعل من المال صنماً حيث يقول: «لا تكنـزوا لكم كنوزاً على الأرض، حيث السوسُ والعُثّ يُتلفان، وحيث اللصوصُ ينقبون ويسرقون. بل اكنـزوا لكم كنوزاً في السماء، فإنّه حيث يكون كنـزُك، هناك يكون قلبُك أيضاً» ويضيف المسيح × ايضاً: «لا يستطيع أحد أن يكون عبداً لسيّدين لانه اما ان يبغض الواحد و يحب الاخر او يلازم الواحد و يحتقر الاخر، إنّكم لا تستطيعون أن تكونوا عبيداً لله وللمال.»
ولكن تنحى المسيحية منحى اخر عند الحديث عن ذات الاله والمسيح، فتعتبر المسيح هو الله المتجسد، وأنه نزل وزار البشرية في جسد المسيح، وهذا التعليم ذكره بولس في رسائله حيث يقول: «فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع ايضاً الذي اذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة ان يكون معادلا لله، لكنه اخلى نفسه آخذا صورة عبد صائرا في شبه الناس، واذ وجد في الهيئة كانسان وضع نفسه و اطاع حتى الموت، موت الصليب... و يعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الاب» ولهم أدلة يستدلون بها على الوهية المسيح لا يسعنى في هذا المقام بحثها ومناقشتها، فالمسيح عندهم هو ابن الله الوحيد والحقيقي وهوالإله في نفس الوقت.
الوصية الثانية: لا تحلِفْ باسم الرب الهك باطلاً
الوصية الثانية من وصايا العهد القديم هي «لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً و لا صورة ما مما في السماء من فوق و ما في الأرض من تحت و ما في الماء من تحت الأرض لا تسجد لهن و لا تعبدهن لاني انا الرب الهك اله غيور افتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث و الرابع من مبغضي» ولكن الكنيسة الكاثوليكية اغمضت الطرف عنها وحذفتها من ضمن الوصايا العشر لانها لا تتناسب وعقيدتها في صنع الايقونات والتماثيل للمسيح ومريم والقديسين، حيث إن المجمع النيقاوي الثاني الذي عقد سنة 787م قد أقرّ تقديس صور وتماثيل المسيح وامه والقديسين دون عبادتها، وقد عمدت الكنيسة الكاثوليكية منذ ذلك الوقت الى حذف الوصية الثانية واحلال الوصية الثالثة مكانها على عكس البروتستانت الذين حافظوا على الوصية الثانية واعتبروا تقديس التماثيل والصور عبادة لغير الله.
وقد استشهد المسيح بهذه الوصية عند تجربته من قبل الشيطان كما ينقل إنجيل لوقا، حيث يقول: «أصعده ابليس الى جبل عال وأراه جميع ممالك المسكونة في لحظة من الزمان وقال له ابليس لك اعطي هذا السلطان كله ومجدهن لأنه إليّ قد دفع وانا اعطيه لمن اريد، فان سجدت امامي يكون لك الجميع، فاجابه يسوع وقال: اذهب يا شيطان انه مكتوب للرب الهك تسجد واياه وحده تعبد»
وتعتقد المسيحية أنه يجب على الإنسان أن يحترم اسم الله ويجلّه لأنّه لاسم الله تجثو كلّ ركبة في السماء وعلى الأرض، وينحني له كلّ رأس من الملائكة والبشر، ويمدحه كلّ إنسان في السماء وعلى الأرض، وقد شدد المسيح في تعاليمه على عدم الحلف أبداً وليكن الكلام نعم او لا، يقول المسيح حسب إنجيل متى: «سمعتم انه قيل للقدماء لا تحنث بل اوف للرب اقسامك وأما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتة لا بالسماء لانها كرسي الله و لا بالأرض لانها موطئ قدميه و لا باورشليم لانها مدينة الملك العظيم و لا تحلف برأسك لانك لا تقدر ان تجعل شعرة واحدة بيضاء او سوداء بل ليكن كلامكم نعم نعم لا لا و ما زاد على ذلك فهو من الشرير»
تنهي الوصيّة الثانية عن سوء استعمال اسم الله، أي كلّ استخدام غير لائق لإسم الله، فمن يحلف بإسم الله باطلاً يحتقر الله ويستخفّ باسمه القدّوس، ولإسم المسيح والعذراء مريم، ولجميع القدّيسين.
وحلف اليمين كان معناه في الأصل يتضمن الوقوع تحت اللعنة لكل من لم يبرّ بوعده او لمن يكذب في إقراره، حتى أن كلمة حلف استعملت لمعنى اللعنة والإنتقام في العهد القديم حيث جاء «وأجعلهم قلقاً لكل ممالك الأرض حلفاً ودهشاً وصفيراً وعاراً»
والقسم والحلف عادة قديمة عند العبرانيين والشعوب السامية وكانت العهود والاتفاقات الفردية والجماعية تعقد بواسطة قسم، وهو بمعنى اتّخاذ الله شاهداً على ما يؤكده الإنسان. إنّه اعتماد صدق الله وعربوناً للصدق الذاتي. والقَسَم او الحلف باطلاً هو أن نحلِف كذباً او لأمر تافه، او لأمر لا نريد أن نتمّمه، او لا نتمّم ما حلفنا أن نتمّمه. ومن العادات القديمة في الأقسام العظيمة أن تقدم ذبائح وضحايا، إذ كانت توجد بين الساميين في القديم عادة شق الذبيحة إلى نصفين يفصلانها ويمرّ المتعاقدون بين القسمين بعد أن يأكلوا شيئاً من لحمها، بمعنى أن كل واحد منهما يدعو على نفسه بأن يشق إلى نصفين كتلك الذبيحة إن أخلّ بالعهد، ولعل كلمة القسم في اللغة العربية مأخوذة من هذه العادة القديمة. وفي أيام المسيح كانوا يحلفون بكرسي الله وباورشليم وبالأرض وبالهيكل وبذهب الهيكل وبالمذبح وبالقربان وبالسماء وبالرأس وما الى ذلك.
واعتقد البعض أن وصية المسيح لا تنهى عن كل أنواع الحلف، بل يقصد منع الحلف في التكلم الاعتيادي. واما في الامور المهمة التي يستوجب فيها الحلف والقسم كالمحاكم مثلاً فهو جائز.
اما التجديف فمعناه التلفظ بألفاظ محقّرة لله او للقديسين او للأشياء المقدّسة. فالتجديف هو تدنيس لاسم الله وهو إثمٌ فظيع لما فيه من التحقير لله تعالى وهو وقاحة كبرى، إذ إنّ الإنسان الحقير يتجاسر على شتم خالق السماء والأرض. وفي العهد القديم كان المجدِّف يُرجم بالحجارة حتى يموت. وكان الملك لويس في القرون الوسطى يأمر بقطع لسان المجدِّف.
ويشتمل الحلف والقسم النذر ايضاً، وهو أن نعد الله بعمل صالح او شيء صالح نكرّمه به، وبقدر ما نحترم الله نتمّم وعدنا له، فمن يعد وعداً يلتزم أن يتمّ وعده، والنذر هو وعد من الإنسان لله فيجب على الإنسان أن يتمّمه.
الوصية الثالثة: احفظْ يومَ الربّ
يعتبر يوم السبت يوما مقدساً عند اليهود كما ذكرنا في الفصل الثاني، والسبت كلمة عبرانية معناها "راحة"، وقد بدأ التفكير منذ القدم على أن يوم السبت هو اليوم الذي يترك فيه الإنسان أشغاله المادية حتى يستريح، وذلك تذكاراً لليوم السابع من الخليقة «لذلك بارك الله يوم السبت وقدسه لأن فيه استراح الرب من جميع أعماله» وقد منع الله نزول المن لإسرائيل في اليوم السابع حتى يستريحوا، ثم تطور التفكير عن يوم السبت حين أمر الله في الوصية الرابعة بحفظ السبت لأن: «الله بارك يوم السبت وقدسه.» وأمر الله أن يستريح الإنسان والحيوان ونزيل البيت في السبت، لا لأنه استراح فيه فحسب، بل لأنه باركه وقدسه أيضاً، وعلى هذا فإنه عندما كسر أحد اليهود السبت قتلوه بدون رحمة.
وقد قدّس المسيحيون الأولون يوم السبت، ولكن اليوم الأول من الأسبوع أي (الأحد) حلّ تدريجياً محل اليوم السابع، وكان المسيحيون الأولون يجتمعون فيه للصلاة، فقد جعلت قيامة المسيح قيمة خاصة لهذا اليوم الأول من الأسبوع . رفضت المسيحية هذه الوصية بحذافيرها واعطتها تفسيراً اخر يتلائم وقدسية يوم الأحد، وبذلك رفضت قدسية السبت، واعتبرت قدسية يوم الرب هو الأحد، لان المسيح صلب ومات ودفن وقام في يوم الأحد كما صرحت بذلك الأناجيل، وفي قرار المجمع المسيحي الأول الذي عقده الحواريون لم يفرض قادة الكنيسة الأولى حفظ يوم السبت اليهودي على أحد، فلم تعد هناك إلزامية حفظ يوم السبت اليهودي..ويعتقدون ان عيسى × أعطى مفهوم السبت الصحيح بقوله: «إنّ السبت جعل للإنسان، وما جعل الإنسان للسبت» وعندما جاء المسيح كان موضوع حفظ السبت هو مادة النزاع الأولى بين المسيح وبين شيوخ اليهود، ولذلك كانت هناك مناظرات ومجادلات بين المسيح والفريسين من اليهود حول قدسية السبت وحرمة العمل فيه، وتروي لنا الإناجيل أحداثاً كثيرة أتُهم فيها المسيح بخرق حرمة السبت، منها ما نقله لوقا في إنجيله حيث قال: «واذ جاء الى بيت احد روؤساء الفريسيين في السبت ليأكل خبزاً، وكانوا يراقبونه، واذا إنسان به مرض كان قدامه، فأجاب يسوع و كلم الناموسيين والفريسيين قائلا هل يحل الابراء في السبت؟ فسكتوا، فامسكه وابراه واطلقه، ثم اجابهم و قال من منكم يسقط حماره او ثوره في بئر و لا ينشله حالا في يوم السبت؟ فلم يقدروا ان يجيبوه عن ذلك» وايضا ينقل يوحنا في إنجيله قصة المريض الذي أشفاه المسيح يوم السبت فيقول: «كان هناك انسان به مرض منذ ثمان وثلاثين سنة هذا راه يسوع مضطجعا وعلم ان له زماناً كثيراً فقال له اتريد ان تبرأ ؟ أجابه المريض: يا سيد ليس لي انسان يلقيني في البركة متى تحرك الماء بل بينما انا آت ينزل قدامي اخر. قال له يسوع: قم احمل سريرك و امش فحالاً برئ الانسان و حمل سريره و مشى. و كان في ذلك اليوم سبت. فقال اليهود للذي شفي انه سبت لا يحل لك أن تحمل سريرك. اجابهم إن الذي ابرأني هو قال لي احمل سريرك وامش ... ولهذا كان اليهود يطردون يسوع ويطلبون ان يقتلوه لانه عمل هذا في سبت».
ولكنّ بالرغم من هذا فان عيسى × لم يكن يتوانى في تقديس هذا اليوم، ولكن الأعمال الصالحة يمكن أن يؤديها الإنسان ويقوم بها في كلّ يوم وساعة، وقد أفهم الفريسيين ذلك بسؤاله منهم: «أَعَمَلُ الصالحات يحلّ في السبت أم عمل السيّئات؟ وتخليص نفس أم إهلاكها؟»
الوصيه الرابعة: أكرم أباك وأمك
هذه الوصية أقرّتها المسيحية بدون أي اضافة او حذف، وتأتي هذه الوصية في اللوح الثاني من لوحي الوصايا العشر، وفيها توسيع نظرة العلاقة مع الله إلى علاقة الناس فيما بينهم وفي الحياة المشتركة، وتبدأ العلاقة بالوصية التي تطلب إكرام الوالدين.
وقد أمر الناموس بأن كل من ضرب أباه او أمه او شتمهما يقتل قتلاً، فقد جاء في العهد القديم: «من ضرب اباه او امه يقتل قتلا ... ومن شتم أباه او أمه يقتل قتلاً» والابن المعاند او المتمرد كان يتعرض للموت رجماً بالحجارة متى شهد عليه أبوه وأمه بذلك أمام شيوخ المدينة: «اذا كان لرجل ابن معاند ومارد لا يسمع لقول ابيه ولا لقول امه، ويؤدبانه فلا يسمع لهما، يمسكه ابوه وامه و يأتيان به الى شيوخ مدينته والى باب مكانه ويقولان لشيوخ مدينته ابننا هذا معاند و مارد لا يسمع لقولنا و هو مسرف و سكير فيرجمه جميع رجال مدينته بحجارة حتى يموت...»
وفي المسيحية ايضاً يعتبر الوالدان امتدادا لله تعالى، لأن الله قد منحنا الوجود بواسطة والدينا وأشركهما بسلطانه علينا وأقامهما نوّاباً ووكلاء عنه يهتمّوا بأمورنا ويدرّبونا على حفظ وصاياه الإلهية، ويهدونا طريق السعادة السماوية. فمن كرّم الوكيل فكأنّه كرّم الذي وكله، فإذا كرّمنا والدينا نكون كرّمنا الله الذي وكلهما علينا، وبخصوص علاقة الأولاد بالوالدين، فذلك يعني إعطاء الوالدين الأهمّية التي تخصّ بهما في وصفهما كوالدين وإكرامهما أيضاً كأب وأمّ.
لقد ذكر المسيح نفسه بقوّة وصيّة الله هذه ووبخ علماء اليهود على تجاهلها او الانتقاص منها قائلاً لهم: «... حسناً رفضتم وصية الله لتحفظوا تقليدكم لان موسى قال اكرم اباك و امك ومن يشتم أباً او أماً فليمت موتا، واما انتم فتقولون ان قال انسان لابيه او امه قربان اي هدية هو الذي تنتفع به مني فلا تدعونه في ما بعد يفعل شيئاً لابيه او امه، مبطلين كلام الله بتقليدكم الذي سلمتموه ...»
وتقتضي هذه الوصيّة واجبات الأولاد لوالديهم باظهار الإحترام اللازم وأن يحبّوهم ويطيعوهم. ويقوم بواجب الإحترام هذا من يكنّ لوالديه الإعتبار الباطني ويعبّر لهما عنه في تصرّفاته الخارجية منهما، ويخطأ من احتقرهما ووجه إليهما كلاماً مهيناً او وقف منهما موقفاً يذلّهما او يسبّب ضرراً لهما، او يستحي بهما، او ينكرهما لرقة حالهما، والمحبّة يجب أن تكون في العواطف والعمل، وعليه قد خالف واجب محبّة الوالدين من أبغضهم او دعى عليهم، او عاملهم بما يجرحهم او يسبّب لهم كرباً او أهمل الصلاة لأجلهم او مساعدتهم في حياتهم الروحية والزمنية.
الوصية الخامسة: لا تقتـل
وهذه الوصية ايضاً امضتها المسيحية، ويُقصد بها القتل المتعمّد غير الشرعي، بما فيه القتل الناتج عن عدم الحذر والتأني. وذلك لان الحياة ثمينة ومقدسة وكرامة الإنسان في المسيحية أنه خُلق على صورة الله ومثاله، فالقضاء عمداً على حياة الإنسان خطيئة تصعد صرختها نحو السماء، والحياة وجود لائق بكرامة الإنسان، فالله هو سيد الحياة وصائنها، والإنسان مدعو للاشتراك في حياة الله، فالحياة الأرضية موجهة نحو الحياة مع الله. فالوصية تعني احترام الحياة، والحق بالحياة، وحماية الحياة.
إن المعنى الإيجابي للوصية هو ذلك الموقف الذي يتخذه الإنسان تجاه الإنسان الآخر، فالعدالة ومحبة الله والقريب تتجلى في أن تحب الرحمة وتسير بتواضع والحفاظ على الحياة؛ وهذا التوجه يمس البشرية في عالم اليوم المتبدل، فالمقصود هو صيانة الحياة وتعزيزها بنوع يوافق كرامة الإنسان ويحقق العدل في معاملته.
والانتحار هو عمل يضع به إنسان ما حداً لحياته وهو يدخل ضمن القتل المتعمد، لأنه لا يجوز من الوجهة الأخلاقية فقدان الحياة بالانتحار، وهو يعني رفضاً لاستمرار العيش في الحرية ورفضاً للذات، فهو عمل يقضي على الحرية قبل الاوان. ومن قتل نفسه ينكر الله الذي وهبنا الحياة. ورفض العيش في الحياة هو رفض لله، لذلك لا يمكن تبرير الانتحار أخلاقياً. الانتحار هو رفض لمحبة الله للإنسان وإنكار لمحبة النفس والتوق الطبيعي إلى الحياة ولواجب العدل والمحبة تجاه القريب والمجتمع.
ولذا تنهى الوصية الخامسة عن القتل وتأمر بحماية الحياة وتعزيزها، فالحياة خير أسمى، إنها خير أساسي فنحن ملزمون أخلاقياً بحماية الحياة الإنسانية والمحافظة عليها، ولكن يمكن للانسان أن يضحي بحياته في سبيل خيرات وقيم أخرى أرفع وأنبل او يضحي بها من اجل احبائه، قال المسيح: «ليس لأحد حب أعظم من أن يبذل ذاته عن أحبائه».
وهذه الوصية ايضاً اعطاها المسيح بعداً معنوياً لم يكن ليلتفت اليه اليهود وجعل الغضب على الاخ ايضاً من موجبات القتل، يقول عيسى × حسب أناجيل العهد الجديد: «قد سمعتم انه قيل للقدماء لا تقتل ومن قتل يكون مستوجب الحكم، واما انا فاقول لكم ان كل من يغضب على اخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم، ومن قال لاخيه رقاً يكون مستوجب المجمع، ومن قال يا احمق يكون مستوجب نار جهنم، فان قدمت قربانك الى المذبح وهناك تذكرت ان لاخيك شيئاً عليك، فاترك هناك قربانك قدام المذبح و اذهب اولاً اصطلح مع اخيك و حينئذ تعال و قدم قربانك»
الوصية السادسة: لا تزن
الزنا خطيئة تلوث حياة الإنسان ونفسه وتنجسه وتستحق عقاب الله الصارم حسب إعلاناته. وهي كل اتصال جنسي غير شرعي. كأن يضاجع رجل امرأة غيره، او فتاة مخطوبة لرجل آخر، او فتاة حرة غير مخطوبة الخ. وكان عقاب هذه الخطيئة الرجم والموت وهناك تفاصيل عديدة بخصوص هذه الخطيئة وطريقة إظهارها ومعاقبتها في العهد القديم.
اما المعنى المسيحي للزنا بالإضافة الى ما ذكر فهي كل نجاسة في الفكر والكلام والأعمال، وكل ما يُشمّ منه شيء من ذلك، ولعل هذا المعنى مأخوذ من الوصية السابعة بتفسير المسيح في موعظته على الجبل حيث يقول: «قد سمعتم انه قيل للقدماء لا تزن،واما انا فاقول لكم ان كل من ينظر الى إمراة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه، فان كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها والقها عنك لانه خير لك ان يهلك احد اعضائك و لا يلقى جسدك كله في جهنم وان كانت يدك اليمنى تعثرك فاقطعها والقها عنك لانه خير لك ان يهلك احد اعضائك و لا يلقى جسدك كله في جهنم». وقد ذكر بطرس وصي عيسى الزنا واسماه شهوة النجاسة فيقول في احدى رسائله: «يعلم الرب ان ينقذ الأتقياء من التجربة ويحفظ الأثمة الى يوم الدين معاقبين، ولا سيما الذين يذهبون وراء الجسد في شهوة النجاسة» وجعل بولس عقوبة الزنا غضب الرب حيث يقول في رسالته: «اما الزنا و كل نجاسة او طمع فلا يُسم بينكم كما يليق بقديسين ... فانكم تعلمون هذا ان كل زان او نجس او طماع الذي هو عابد للأوثان ليس له ميراث في ملكوت المسيح و الله ... لانه بسبب هذه الأمور يأتي غضب الله على ابناء المعصية» واعتبرها الحواري يعقوب بمثابة عداوة لله فقد قال في رسالته: «ايها الزناة و الزواني اما تعلمون ان محبة العالم عداوة لله، فمن اراد ان يكون محبا للعالم فقد صار عدواً لله».
وكذلك فان الزنا هو السبب الوحيد الذي ينحل به رباط الزوجية المقدس في المسيحية، ذلك لان الرب يعرف ان الرجل يمكن ان يتحمل المرأة في كل شيء ويغفر لها كل ذنب ما عدا الزنا فانه لا يحتمل، ولا يستطيع الرجل ان يعيش مع المرأة بعد فعلها القبيح هذا، واذا طلق الرجل زوجته لغير خطيئة الزنا، وتزوج باخرى فانه يعتبر زانياً، وقد اقرّ هذا الحكم المسيح نفسه حيث يقول: «واقول لكم ان من طلق امراته الا بسبب الزنا و تزوج باخرى يزني، والذي يتزوج بمطلقة يزني».
وقد سرت شريعة عدم الزواج بالمحرمات الواردة في الشريعة اليهودية الى الشريعة المسيحية، ولهذا يعتبر زنا ان يتزوج الرجل بإمراة لا تحل ان تكون له زوجة.
وفي عرف الإيمان المسيحي الكاثوليكي يعتبر الزواج المسيحي سر يتم فيه الإتحاد الزوجي وهو عهد يُظهر بطريقة خاصة حب المسيح لكنيسته. لذا لا يُفهم الزواج ولا يُعاش كسِرّ إلا من خلال هذا السر وحده، فإنه طريقة لأتباع المسيح ×،إن الزنا قد عُدّ في الكنيسة منذ البداية طعناً خطيراً بنـزاهة الزواج الأخلاقية، وقد أدرجه التقليد المسيحي ضمن الخطايا الجسيمة مع الجحود والقتل، لأن الزوج الذي يكتشف الآخر قد زنى، يشعر غالباً بإهانة جسيمة وبضربة للأمانة الزوجية، من هذا المنطلق، يكون الزنا خطأً جسيماً ضد الحب والأمانة الزوجية، وضد رباط الزواج المقدس.
الوصيه السابعة: لا تسـرق
وهذه الوصية هي الثامنة عند اليهود والبروتستانت والسابعة عند الكاثوليك، لانهم حذفوا الوصية الثانية كما ذكرنا، والسرقة هي أخذ مال الغير في خفاء او بالخداع والحيلة، ويمكن أن يقوم بذلك فرد او عصابة.
والوصية السابعة تنهى عن أخذ مال القريب او حفظه دون حق، وإلحاق الضرر بالقريب في أمواله بأي وجه من الوجوه، وهي تفرض على الانسان مراعاة العدالة والمحبة في إدارة أموال الناس وثمار عملهم، وتقتضي احترام كون الخيرات معدة للجميع، واحترام حق الملكية الخاصة.
وللسرقة أنواع، فكل طريقة لأخذ مال الغير دون حق والاحتفاظ به، هي مخالفة للوصية السابعة وإن لم تكن متعارضة مع أحكام الشريعة المدنية ومنها:
الاحتفاظ عمداً بما أقرض من مال، والاحتفاظ عمداً بما وجد من أشياء ضائعة، والغش في التجارة، دفع أجور غير عادلة، رفع الأسعار اعتماداً على جهل الغير وعوزه، المضاربة المستعملة لتغيير تخمين الخيرات بأسلوب مصطنع لنيل فائدة على حساب الغير، الرشوة التي بها يُبدّل رأي مَنْ عليهم أن يتخذوا القرارات وفاقاً للحق، استملاك أموال عامة لمؤسسة واستعمالها للمصلحة الخاصة، الأشغال التي لم يحسن صنعها، الغش الضريبي، تزوير الشيكات والفواتير، المصاريف المفرطة والهدر.
إن الوصية السابعة هي وصية تخص السوء الذي بإمكاننا أن نلحقه بأملاك الآخرين او حتى بمعطيات الطبيعة. وهي وصية خاصة تخص حق الإنسان في تحقيق حاجاته ومسؤوليته تجاه حقوق الآخرين، والملفت للأمر أن المسيح × لم يتعرض الى هذه الوصية في تعاليمه ومواعظه، ولكنه تضمنت بعض امثاله الحديث عنها حيث يقول بخصوص مجيئه الثاني وعودته الى الأرض: «فيما هو جالس على جبل الزيتون تقدم اليه التلاميذ على انفراد قائلين قل لنا متى يكون هذا وما هي علامة مجيئك و انقضاء الدهر ... فقال المسيح اما ذلك اليوم و تلك الساعة فلا يعلم بهما احد و لا ملائكة السماوات الا أبي وحده، كما كانت ايام نوح كذلك يكون ايضاً مجيء ابن الإنسان، لانه كما كانوا في الايام التي قبل الطوفان يأكلون و يشربون و يتزوجون و يزوجون الى اليوم الذي دخل فيه نوح الفلك ولم يعلموا حتى جاء الطوفان واخذ الجميع، كذلك يكون ايضاً مجيء ابن الانسان.... و اعلموا هذا انه لو عرف رب البيت في اية هزيع يأتي السارق لسهر ولم يدع بيته ينقب».
الوصية الثامنة: لا تشهد بالزور
إن الشكل الأصلي للوصية يتكلم عن شهادة الزور في المحكمة «لا تشهد على قريبك شهادة زور». إنها تحوي مصطلحات قانونية تعطي بوضوح معناها الأساسي، إن تعبير (شهادة زور)، آتٍ من الخبرة القانونية في إسرائيل، وهي تعني شهادة ضد شهادة أمام محكمة من الشيوخ. إن الشاهد يمكن أن يكون صادقاً ويمكن أن يكون كاذباً، وفي المحكمة القاضي يستجوب الشهود استناداً الى الثقة التي تضعها في الشهود، الذين حينما تنعدم الأدلة والقرائن، يؤكدون او ينقضون أقوال الخصماء، وبهذا يتيحون للحقيقة ان تظهر الى النور، لهذا فالرب يذكرهم أن لا يجيبوا ضد المتهم شهادة مزورة؛ وان لا يصنعوا هكذا تهمة زائفة مستعملين الأيمان الكاذبة، فهذه الوصية تهدف الى الدفاع عن سير القضاء، الذي تعتبر الثقة فيه ضمانا لتحقيق العدالة بين الناس.
وبما أن القاضي يجب أن يعمل على تحقيق العدالة، فعليه أن يمنع مثل هؤلاء الشهود الدخول إلى المحكمة قدر المستطاع، فلا يُعطي الحكم على أساس شهادة رجل واحد فقط، لكن عليه أن يسأل اثنين او ثلاثة، بحيث يضعهم بتناقض فيما بينهم لإكتشاف الزيف خصوصاً في الحكم بالموت، وعند اكتشاف الزور يجب أن لا يبقى شاهد الزور فيما بعد دون جزاء، فيوضع المذنب، دون رحمة، إلى شريعة المِثل، أي يجب التعامل معه مثلما تعامل مع قريبه «اصنعوا به ما فكر أن يفعله بأخيه»، بينما نقرأ في شريعة حمورابي التي تقول إن شاهد الزور يجب أن يموت، وليس فقط أن يُصنع به ما أراد صنعه لأخيه.
وقد اشار المسيح × في معرض حديثه عن الإختلاف بين المؤمنين الى الشهود فقال: «إن أخطأ اليك اخوك فاذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما ان سمع منك فقد ربحت اخاك، وان لم يسمع فخذ معك ايضاً واحداً او اثنين لكي تقوم كل كلمة على فم شاهدين او ثلاثة».
ويمكن القول إن هذه الوصية اشارت الى قبح الكذب الذي لم يذكر في الوصايا العشر اطلاقاً، وهو ما يدعو الى التأمل، وان كان الكذب قد تم النهي عنه في مواضع اخرى من أسفار العهد القديم والجديد، ولكنه لم يذكر ضمن الوصايا العشر، وتنهى الوصية الثامنة عن تمويه الحقيقة في العلاقات بالغير، وهذا يعني الكذب، والله يكره اللسان الكاذب، ولهذا يعتبر شاهد الزور مخادع لأنه كذب ضد المحكمة البشرية والإلهية، وهي احتيال ضد العدل البشري والعدل الإلهي، والكلام المخالف للحقيقة، يصبح أمام المحكمة شهادة زور، وعندما يُسنَد بقسم يصبح حِنثا. وهذه الأنماط في السلوك تساهم إما في الحكم على بريء، وإما في تبرئة مذنب، وإما في زيادة في الحكم الذي يصدره القضاة، فأخلاقياً هذه الوصية تحكم على الكذب الذي يبدأ من المحكمة ثم يسري الى كل اعمال الانسان لينسف استقامته، فهو يهدم الثقة بين الناس، ويمزق نسيج العلائق الاجتماعية.
الوصية التاسعة: لا تشتهِ امرأة قريبك
يقول النص في الفصل الخامس من سفرالتثنية: «ولا تشته إمرأة قريبك ولا تشته بيت قريبك و لا حقله و لا عبده و لا أمته و لا ثوره و لا حماره و لا كل ما لقريبك».
وقد قسم الكاثوليك هذه الوصية الى قسمين لتكتمل الوصايا العشر، وجعلوا التاسعة حرمة اشتهاء امرأة القريب، والعاشرة حرمة اشتهاء بيت القريب ومقتنياته.
والشهوة هي حركة النفس ونزوعها إلى ما تريد، فإن اشتهت النفس ما ليس لها الحق فيه فإن الشهوة، شهوة غير شرعية، ورغم أن الكلمة في أصلها تعني الرغبة الملحة القوية، وكان يمكن أن تستخدم للحسن والسيء،ولكنها وردت في الغالب للاستعمال السيء، واستخدمها الكتاب المقدس للتعبير عن النوازع الحسيَّة التي تلد الخطيئة.
ولهذا فقد فسرت لا تشته بمعنى النهي عن الشهوة الفكرية، اي التفكير بالشهوة، وايضاً حرمة المكائد العملية والأعمال الموجهة للوقوع في الفعل الحرام، فالشهوة في القلب على وفق هذا التفسير تعتبر من الامور المحرمة، واعتبرها البعض من أرق الوصايا الأخلاقية لانها جاءت لتمنع الشرور المبيتة عن طريق تغلب الغريزة الدافعة للانسان أن يفعلها. وقد أشار المسيح ايضاً الى هذا المعنى في موعظته على الجبل وذلك بالنهي عن النظر بشهوة للمرأة الاجنبية، لان ذلك يعتبر مقدمة للوقوع في الحرام حيث يقول: «قد سمعتم انه قيل للقدماء لا تزن، واما انا فاقول لكم ان كل من ينظر الى إمرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه». فالتحريم لا يطال الزنا بما هو فعل وحسب، بل يطال أيضاً إشتهاءه والذي اسماه المسيح زنا القلب.
الوصية العاشرة: لا تشتهي بيت قريبك
المعنى الأساسي للوصية هو احترام حرية الإنسان واحترام ممتلكاته ومقتنياته وتعزيز حقوقه التي هي أساس عيشه. من حيث مضمون الوصية، تحذر الوصية العاشرة من شهوة مال الغير، وامتلاك ما لا يحق للإنسان امتلاكه من غيره بدون حق.
وقد أعطى اللاهوت المسيحي معنى خاصاً للشهوة، واعتبرها حركة الرغبة الحسية التي تعارض عمل العقل البشري، فهي تتميز عن الرغبة في أن الإنسان يريد أن يمتلك كل شيء ويسخر عندئذ كل شيء من أجل محبة الذات وخدمة حاجاتها حتى يصل الأمر بالإنسان إلى احتقار الله والآخرين، تحملنا الشهوة الحسية على أن نرغب في الطيبات التي ليست لدينا. هكذا هي الحال عندما نرغب في الطعام عندما نجوع، وفي الدفء عندما نبرد. وهذه الرغبات صالحة في حد ذاتها. ولكن إذا لم تقف الشهوة عند حدود العقل، تصبح الشهوة دنيئة (غير صالحة) وتدفعنا إلى أن نشتهي دون وجه حق، ما لا يعود إلينا، ويمتلكه غيرنا و هو من حقه.
تولد الشهوة في قلب الإنسان قبل أن يقوم بالعمل والقلب الشرير يكشف عن الشر. فأحياناً تأتينا أفكار غير سليمة، فهذه الأفكار التي تأتينا ليست خطايا، ولكن عندما نحاول أن نتمتع بهذه الأفكار تصبح خطايا، لأن هذه الأفكار تجعل القلب الذي يوافق على فعلها مظلماً، وهذه الشهوات هي من حب الدنيا وهي زائلة لا محالة فقد جاء في العهد الجديد:
«لأن كل ما في العالم شهوة الجسد و شهوة العيون وتعظم المعيشة ليس من الاب بل من العالم، والعالم يمضي و شهوته واما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت الى الابد.» وهنا يميز الحواري يوحنا في رسالته ثلاثة أنواع من الشهوات او الرغبات، الأولى شهوة الجسد والثانية شهوة العين والثالثة كبرياءُ الغِنى (تعظّم المعيشة).
ولكن هذا لا يعني ان يتجرد الإنسان من كل رغباته وشهواته، إذ إن عظمة الإنسان هو أنه كائن له رغبات، فالرغبة تفتح قلب الإنسان إلى الآخرين والى حاجاتهم، وفي الحياة عدة رغبات صالحة بحد ذاتها، الرغبة في الحياة، الشفاء، النمو، أن يحب وأن يكون محبوبا، نرغب جميعا في الخيرات التي لا نملكها، ونكون سعداء، نتنفس الصعداء عندما نحصل على عمل ممتع، أن نسكن في منزل رائع، فالرغبة والشهوة تجعل الإنسان يتوق الى الكمال واعظمه هو مشاهدة الله والفناء فيه.
ولكن يمكن لرغبة (او شهوة التملك) أن تصبح اضطهاداً للذات وللآخرين. والكنيسة تعتبر الرغبة في السعادة الحقيقية هي إنقاذ الإنسان من التعلق الزائد بخيرات هذا العالم الدنيوي، لتكتمل في رؤية الله التي تفوق كل سعادة، لان من رأى الله فقد حصل على كل الخيرات التي نستطيع أن نتصورها.
وتنهى الوصية العاشرة عن الطمع والرغبة في تملك لا محدود للخيرات الأرضية؛ وتحظر الجشع الذي هو نتيجة التعلق المفرط بالمال وقدرته، وهي تمنع أيضا من الرغبة في ارتكاب ظلم يساء به إلى القريب في أمواله ومقتنياته، وتقتضي ايضاً إقصاء الحسد من القلب البشري، لان الحسد رذيلة رئيسية، وهو يشير إلى معاناة الحزن حيال مال الغير والرغبة القوية في امتلاكه، وإن كان عن غير وجه حق.
الوصية العاشرة تقصد نية القلب وهي تكمل الوصية التاسعة التي تتناول شهوة الجسد وهي تختصر مع الوصية التاسعة جميع فرائض الشريعة، فهي تنهى عن اشتهاء مال القريب، أصل السرقة والنهب والغش التي تحرمها الوصية السابعة. وتنهى عن شهوة العيون أي تلك الرغبة في تملك كل ما تراه، وتقود إلى العنف والظلم ومن ثم تؤدي إلى القتل اللذين تحظرهما الوصية الخامسة. وأصل الجشع هو في عبادة الأصنام التي تنهي عنها الوصايا الثلاث الأولى من الشريعة.
المبحث الثالث: مقارنة بين العهدين (القديم والجديد)
من خلال ما بينا من من شرح للوصايا العشر في العهدين القديم والجديد تبين لنا نقاطاً فارقة من ابرزها ما يلي:
1-إن أتباع العهد الجديد يحترمون يوم السبت ولكن لا يقدسونه لدرجة القول بالراحة فيه حيث أنهم يقدسون يوم الاحد. وهذه النقطة تعتبر من الامور التي جعلت اليهود بشتى طوائفهم يثورون على النصارى فيها متهمين إياهم بنقض الناموس.
2-كذلك رأينا شرحاً كثيراً والربط بين الوصايا العشر وبين المسائل الأخلاقية بأستفاضة مما يدعونا في إجمال القول بأنها أخذت أبعاداً جديدة، مما يمكن القول بأن المسيح والحواريين اهتموا والتزموا بالوصايا العشر، فالمسيح اقتبسها في مواقف مختلفة وشدد عليها ولكنه اعطاها بعداً معنوياً وفسرها تفسيراً روحياً، ولخصها في وصية واحدة هي وصية المحبة، وعلم الناس أن غاية الناموس إنما هي المحبة لله والقريب، وبسبب ذلك اصطدم اصطداماً عنيفاً مع الفريسيين الذين تمسكوا بقشور الشريعة وأعرضوا عن جوهرها، فحيث تتوقف الشريعة عند حد (لا تقتل) يرتقي المسيح بتعاليمه إلى أفق أبعد وأدق فيقول: «لا تقل أحمق لأخيك»، وعندما يسأل الفريسيون المسيح عن التطهير الخارجي يحدثهم عن القلب الذي يجب أن يتطهر، كي لا يتحول إلى القلب المبيض خارجيا والمملوء عفناً داخلياً، ففي تعليم المسيح ينبع السلوك الإنساني من داخل الإنسان من ضميره قبل أن يكون نابعا من قاعدة اجتماعية او سياسية او من تقليد ما، أيا كانت أهمية هذه القاعدة او هذا التقليد. وهنا نفهم أيضا أن تعليم عيسى × يحمل بعداً عاماً وشاملاً لأنه يعني الرجوع إلى الضمير ومساواة البشر فيما بينهم، في علاقة تبادلية محورها تحمل الإنسان مسؤولية الآخر كمسؤوليته عن نفسه، دلالة على حبه لله وحبه للآخرين كما يحب نفسه، والمسيح يجعل من وصية المحبة للاخرين كمال الشريعة وتعاليم الانبياء فيقول:« كل ما أردتم أن يفعل الناس لكم، فافعلوه أنتم لهم: هذه هي الشريعة و الأنبياء». وايضاً قوله عند جوابه للسائل عن الوصية العظمى: «يا معلم اية وصية هي العظمى في الناموس فقال له يسوع تحب الرب الهك من كل قلبك و من كل نفسك و من كل فكرك هذه هي الوصية الأولى والعظمى والثانية مثلها تحب قريبك كنفسك بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله و الانبياء.» إن المسيح والحواريين اهتموا والتزموا بالوصايا العشر، فالمسيح اقتبسها في مواقف مختلفة وشدد عليها ولكنه اعطاها بعداً معنوياً وفسرها تفسيراً روحياً، ولخصها في وصية واحدة هي وصية المحبة، وعلم الناس أن غاية الناموس إنما هي المحبة لله والقريب، وبسبب ذلك اصطدم اصطداماً عنيفاً مع الفريسيين الذين تمسكوا بقشور الشريعة وأعرضوا عن جوهرها، فحيث تتوقف الشريعة عند حد (لا تقتل) يرتقي المسيح بتعاليمه إلى أفق أبعد وأدق فيقول: «لا تقل أحمق لأخيك»، وعندما يسأل الفريسيون المسيح عن التطهير الخارجي يحدثهم عن القلب الذي يجب أن يتطهر، كي لا يتحول إلى القلب المبيض خارجيا والمملوء عفناً داخلياً، ففي تعليم المسيح ينبع السلوك الإنساني من داخل الإنسان من ضميره قبل أن يكون نابعا من قاعدة اجتماعية او سياسية او من تقليد ما، أيا كانت أهمية هذه القاعدة او هذا التقليد.
3-أن تعاليم عيسى × تحمل بعداً عاماً وشاملاً لأنه يعني الرجوع إلى الضمير ومساواة البشر فيما بينهم، في علاقة تبادلية محورها تحمل الإنسان مسؤولية الآخر كمسؤوليته عن نفسه، دلالة على حبه لله وحبه للآخرين كما يحب نفسه، والمسيح يجعل من وصية المحبة للاخرين كمال الشريعة وتعاليم الانبياء فيقول:« كل ما أردتم أن يفعل الناس لكم، فافعلوه أنتم لهم: هذه هي الشريعة و الأنبياء». وايضاً قوله عند جوابه للسائل عن الوصية العظمى: «يا معلم اية وصية هي العظمى في الناموس فقال له يسوع تحب الرب الهك من كل قلبك و من كل نفسك و من كل فكرك هذه هي الوصية الأولى والعظمى والثانية مثلها تحب قريبك كنفسك بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله و الانبياء.»
الفصل الرابع
الوصايا العشر في القرآن الكريم
ويتضمن المباحث التالية:
المبحثالأول: الدائرةالأخلاقيةالقرآنية
المبحثالثاني: الوصيةالعقدية (النهيعنالشركبالله)
المبحثالثالث: الوصاياالسلوكية
المبحث الرابع: الوصايا الروحية
المبحثالخامس: المقارنةبينالقرآنالكريموالعهدين
تمهيــد
ان العهد القديم قد بدأ كلامه بالوصايا العشر بمعالجة مسالة الوحدانية والنهي عن الشرك واتبع هذا بوصايا تعالج جانب السولك الانساني واخرى فيها بعض الجوانب الروحية ولما جاء العهد الجديد توسع في هذا وعزف على وتر الاخلاق والمحبة كمنطلق لتقويم السلوك الفردي والتعايش الجماعي بين بني البشر الا ان القرآن الكريم قد عالج كلا من الجانب العقدي بما فيه من اثبات للوحدانية وابطال للشرك والتعدد وكذلك جوانب الاخلاقيات والسلوك والوجدانيات والاجتماعيات بصورة مزهوة غير مسبوقة مما جعلنا ننطلق نحو منهج خاص في عرض بعض من وصايا القرآن في دائرة المقارنة في موضوع البحث فلا يخلتف إثنان ما للوصايا الأخلاقية التي جاءت بها الشرائع السماوية من أثر في تقويم المنحى الإنساني، وأنها ترفعه على كل ما يشين بمسيرته الهادفة الى الكمال؛ اي ان الوصايا الإلهية التي وردت في الشرائع السماوية تسعى الى تأهيل القيم والمبادئ التي من شأنها أن تأخذ بالانسان الى مراقي السعادة والسلام.
إتسعت المنظومة الأخلاقية القرآنية لتشمل أوسع عدد من الآيات القرآنية، بل إنّه من الممكن القول بأن جميع الآيات القرآنية و منها العقدية والفقهية والإجتماعية والتاريخية وغيرها بلا إستثناء تنحو نهجاً اخلاقياً وتحدد اهدافاً اخلاقية لمسيرة الإنسان نحو الكمال المادي والمعنوي. ولكن جرت العادة في القرآن ان تلخص بعض المهمات ضمن آيات محددة، فمثلاً هناك سورة الفاتحة التي لخصت علاقة الله بالإنسان بشتى ابعاده ضمن عبارات مختصرة جداً والتي فصّلها الله تعالى في سوره وآياته الأخرى ولذلك سميت بامّ الكتاب وامّ القرآن. وأيضاً هناك سورة التوحيد التي جمعت كل مفاهيم التوحيد والتنزيه ونفي الشرك في اربعة آيات مختصرة جداً ولذلك فإن قراءتها تعادل ثلث القرآن.
وفي هذا الفصل وبعد ما درسنا الوصايا في التوراة والإنجيل ضمن الفصلين السابقين، سنلقي الضوء على ما في القرآن الكريم من وصايا وهي الأكمل والأشمل، فنبدأ بتحديد الدائرة الاخلاقية القرآنية في بيان تلك الوصايا ومعرفة نسبتها بالنسخة التوراتية والإنجيلية منها وبعد ذلك نتطرق لآراء المفسرين والمفكرين الإسلاميين في شرح وتفصيل للوصايا القرآنية ضمن ثلاث دوائر: عقدية، سلوكية، روحية.
المبحث الأول: الدائرة الأخلاقية القرآنية
إن من دواعي الإذعان لهذا الاعجاز القرآني من حيث الهداية والتشريع هو أن نجد في آيتين دائرة أخلاقية متكاملة تتكفل بالسمو الأخلاقي الذي ينشده الجميع ويسعى اليه كل من أراد ان يرتقي الى مدارج الكمال. وسنحاول في هذا الباب تقديم عرض عام لتلك الوصايا بوصفها منظومة أخلاقية متكاملة ومقارنتها مع نظائرها التوراتية والإنجيلية.
ففي الآية القرآنية التي نعرضها نرى ضخامة المثل ورصانة القيم تنحدر من آية اختصرت المسيرة الأخلاقية الإنسانية وذلك من خلال قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكمْ عَلَيْكمْ أَلاَّ تُشْرِكواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ اولادكم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكمْ وَصَّاكمْ بِهِ لَعَلَّكمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَاوفُواْ الْكيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ اوفُواْ ذَلِكمْ وَصَّاكم بِهِ لَعَلَّكمْ تَذَكرُونَ (152) وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكمْ وَصَّاكم بِهِ لَعَلَّكمْ تَتَّقُونَ}
وقد بين الطوسي قوله تعالى: «ما حرم ربكم» فقال في اعرابها ثلاثة اوجه: احدها الرفع على تقدير ذلك ان لا تشركوا به شيئاً. والثاني النصب على تقدير اوصى ان لا تشركوا به شيئاً. والوجه الاخير ان يكون نصباً بـ «حرم» وتكون «لا» زائدة وتقديره حرم ربكم ان تشركوا به شيئاً، كما قال: «ما منعك ان لا تسجد». ووافقه الزمخشري في كشافه بقوله: «ما حرم» منصوب بفعل التلاوة، أي اتلو الذي حرمه ربكم. او يحرم بمعنى: اقل أي شيء حرم ربكم؟ لان التلاوة من القول و«أن» في «أن لا تشركوا» مفسرة و «لا» للنهي.
واذا أجلنا النظر في تفاصيل هذة الآية، نجد انها تتفق مع ما جاء في الكتب السماوية المنزلة بل في جميع الشرائع في عناصرها الرئيسة؛ كما ورد عن ابن عباس رضي الله عنه قوله: «هذه الآيات هي المحكمات التي ذكرها الله في سورة آل عمران اجمعت عليها شرائع الخلق، ولم تنسخ قط في ملة» وقد قيل: انها العشر كلمات المنزلة على موسى ×. وقال كعب الأحبار: هذه الآيات مفتتح التوراة.
واذا اردنا مقابلة ما ورد في القرآن الكريم من هذه الوصايا مع الوصايا التوراتية والإنجيلية، رغم اشتراكها في المضامين والمحاور الرئيسة فاننا نجد ان دائرة الوصايا القرآنية تتخذ حالة الإتساع والشمولية للمنحى الإخلاقي الإنساني بكل تفاصيله ويبدو ان شمولية الإسلام وتماميته من وراء هذه السعة الأخلاقية للوصايا؛ واذا أردنا المقارنة لما ورد في الكتابين المقدسين مع ما ورد في القرآن الكريم، سنواجه دائرة فائقة الشمولية في هذا البرنامج الأخلاقي الشامل الذي لا يقتصر على عدد من الوصايا، بل أن الخطاب القرآني بمشوليته الواسعة يعم حالة اخلاقية عامة يحاول من خلالها معالجة المشكلة الاجتماعية بكل جذورها.
ويتناول بعض المفسرين المعاصرين، تفسير تلك الوصايا ببحث تحليلي مقارن يثبت ان ذلك أمر مشترك بين جميع الديانات فيقول: تبين الآيات، المحرمات العامة التي لا تختص بشريعة من الشرائع الإلهية وهي: الشرك بالله، وترك الإحسان بالوالدين، واقتراب الفواحش، وقتل النفس المحترمة بغير حق ويدخل فيه قتل الأولاد خشية املاق واقتراب مال اليتيم الّا بالتي هي أحسن وعدم ايفاء الكيل والميزان بالقسط والظلم في القول وعدم الوفاء بعهد الله واتباع غير سبيل الله المؤدي الى الاختلاف في الدين. ومن الشواهد انها شرائع عامة أنـّا نجدها فيما نقله الله سبحانه من خطابات الأنبياء لأممهم في دعواتهم الدينية كالذي نقل من نوح وهود وصالح وابراهيم ولوط وشعيب وموسى وعيسى ^ وقد قال تعالى: {شَرَعَ لَكم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي اوحَيْنَا إِلَيْك وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ َومُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} ومن لطائف الاشارات التعبير عمّا أوتي نوح وإبراهيم وموسى وعيسى^ بالتوصية ثم التعبير في هذه الآيات الثلاث التي تقص اصول المحرمات الإلهية ايضاً بالتوصية حيث قال: {ذَلِكمْ وَصَّاكم بِهِ لَعَلَّكمْ تَتَّقُونَ} على ان التأمل فيها يعطي ان الدين الالهي لا يتم امره ولا يستقيم حاله بدون شئ منها وان بلغ من الاجمال والبساطة ما بلغ، وبلغ الإنسان المتمثل به من السذاجة ما بلغ.
وعلى هذا فإن الآيات الكريمة تريد إعادة التذكير بما نهى عنه سبحانه في الديانات السابقة وكأن هذة الآيات تشير الى حالة التقارب والتوافق بين جميع الديانات الموجودة فعلاً والمنسوخة منها، أي ان هناك وحدات مشتركة بين جميع الديانات السماوية توحّد الهدف وتسعى الى الابقاء على الثوابت والقيم التي جاءت بها جميع الرسالات مما يعني أن الاسلام ختم ذلك بما نادى به من الأوامر والمناهي التي جاءت بها جميع الشرائع السماوية وهذا النداء الذي اشرنا اليه يتمثل بقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكمْ عَلَيْكمْ}
وقد اشار الطبرسي في مجمع البيان الى هذا النداء ليجعله دعوة الى التلاوة والتفكر فهو يتناول الآية من بحثها اللغوي ليجعل من كلمة «تعالوا» دليلاً على أن ما يتلوه هو في منتهى الرفعة والسمو من حيث الكمال الإنساني المطلوب من البشر في حياته الدنيا فيقول: «تعالوا مشتق من العلو على تقدير ان الداعي في المكان العالي وان كان في مستوى من الأرض، كما يقال للإنسان ارتفع الى صدر المجلس والتلاوة مثل القرآءة والمتلوّ مثل المقروء، والتلاوة غير المتلوّ كما ان الحكاية غير المحكيّ، فالمتلوّ والمحكي هو الكلام الأول والتلاوة والحكاية هي الثاني منه على طريق الإعادة...
ويوافقه في ذلك أبو عبد الله أحمد بن محمد القرطبي في تفسيره إذ يقول: «قوله تعالى: قل تعالوا اتلُ ــ أي تقدّموا واقرأوا ــ هنا يقيناً كما أوحى إليّ ربي، لا ظناً ولا كذباً كما زعمتم، ثم بيّن ذلك فقال "ألا تشركوا به شيئاً" يقال للرجل: تعال، أي تقدم، وللمرأة تعالي، وللإثنين والإثنتين تعاليا، ولجماعة الرجال تعالوا، ولجماعة النساء تعالين؛ قال الله تعال "تعالين امتعكنَّ" وجعلوا التقدّم ضرباً من التعالي والارتفاع، لأن المأمور بالتقدم في اصل وضع هذا الفعل كأنه كان قاعداً فقيل له تعال، أي ارفع شخصك بالقيام، واتسعوا فيه حتى جعلوه للواقف والماشي.»
وانت تلاحظ انهما يتفقان في أن الدعوة الى الخير والكمال هو ارتفاع من الأدنى الى الأعلى بغض النظر عن ظرفية المكان أي ولو كان الداعي والمدعو كلاهما في مستوى واحد من المكان الا ان الدعوة الى الصلاح من شأنها ان ترفع المدعوّ الى مستوى اعلى من الكمال والسمو الروحي والمعنوي. وتلك النواهي تشكل اساساً محكماً في المنظومة الأخلاقية الإسلامية وتأصيلاً للقيم التي نادت من اجلها جميع الديانات، كما اننا سنقرأ فيها الوصايا العشر التي جاءت بها الديانتين اليهودية والمسيحية كونهما تشريعان سماويان ينسجمان ومعطيات الأسس الأخلاقية الإسلامية.
إذن لا بد لنا من تنقيط هذه الوصايا العشر الإسلامية ضمن تصنيف موضوعي لها فلاحظنا انها تشمل ثلاث أنواع من التوصيات؛ فمنها ما ترتبط بالعقيدة الصحيحة والإيمان السليم من آفات الشرك والكفر، ومنها ما يرتبط بالسلوك البشري وخاصة في العلاقات الإجتماعية، ومنها ما هي وصايا روحية ترتبط بقرارات مصيرية يتخذها الإنسان في صقع وجوده وتتجلى في فسحة روحه وتظهر في جميع تصوراته وانماط حياته، فنبدأ اولاً بالوصية الأولى وهي تشكل الحجر الأساس في نظام الوصايا الإلهية، لأنها تنهى عن الشرك بوصفه فساداً في العقيدة ينتشر كالوباء في الروح والجسد ويفسد الحياة بأكملها وثم الوصايا السلوكية التي ترتبط بأفعال الإنسان ونعرج أخيراً الى الوصايا الروحية التي تمثل تلخيصاً لكل ما سبقها من وصايا عقدية وسلوكية.
المبحث الثاني: الوصية العقدية (النهي عن الشرك بالله)
إن تحديد الوصايا بعشر ليست واردة في القرآن والسنة فان من يستقرأ الوصايا الواردة في القرآن يدرك انها تربو على هذا بكثير ولقد إشتهر خطأ لدى بعض الكتاب ان الوصايا العشر القرآنية هي الواردة ضمن آيات سورة الأنعام بدءً من قول الله عز وجل: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكمْ عَلَيْكمْ}على اساس ان في هذه الآيات عشرة مسائل وننوه هنا الى ان القاسم المشترك بين الوصايا العشر في العهدين و بين ما جاء في هذه الآيات لا يتعدى نسبة خمسة من عشر وهي الواردة في الآية التي ذكرنا بدايتها آنفا ومن يقرأ سورة الاسراء يرى فيها وصايا كثيرة اضافة على ما جاء في سورة الانعام بقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً * وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} وغير ذلك كثيراً في القرآن الكريم.
وموقفنا هنا هو المقارنة بينما جاء في العهدين وبما جاء في القرآن الكريم فنقول: لقد افتتحت آية سورة الانعام الكريمة بأول المناهي وأهمها وهي الشرك بالله، قال الطبرسي في تفسير مجمع البيان: «لما حكى سبحانه عنهم تحريم ما حرّموه عقبه بذكر المحرّمات فقال سبحانه «قل» يا محمد لهؤلاء المشركين: «تعالوا» أي أقبلوا وادنوا «أتلُ» أي أقرأ «ما حرّم ربكم عليكم» أي منعكم عنه بالنهي ثم بدأ بالتوحيد فقال: «أن لا تشركوا به شيئاً» أي آمركم ان لا تشركوا...»
والتوحيد هو المدخل الى الإيمان وهو الطاعة والإذعان لله تعالى وإلقاء كل شرك ظاهر كعبادة الأوثان وخفي كالرياء – كما سنتعرض الى مراتب الشرك لاحقاً – حيث حرصت الشريعة الإسلامية الى تحقيق العلاقة بين العبد وبين خالقه وذلك من خلال تعميق الرؤية الإيمانية التي تنفتح على عوالم العبودية لله تعالى كلما تأكدت العبودية إزدادت حالة التحرر الإنساني في أعماق النفس وتحررت من قيود التبعية للغير وهذا منحى عظيم إلتزمه الإسلام في تحقيق الحرية الحقيقية من خلال الخضوع الكامل والتام لله تعالى، فالعبودية بمعناها العام هو الخضوع لجهة واحدة بيدها مقاليد الأمور ولديها الخير والأمر من بعدُ ومن قبلُ، وهي المهيمنة على كل الحقائق كبيرها وصغيرها، خيرها وشرها فاذا ترسّخ هذا الإعتقاد لدى الانسان تحرّر من هيمنة الغير، وترّفع عن الخضوع لكل أحد وتعالى على كل قضية من شأنها أن تقطع هذه العلاقة مع السماء، مع الخير، أي مع القوة الحقيقية وهي الله تعالى. إذن فالايمان بحقيقته تحرّر عن قيود الاذعان للغير مهما تعاظمت قوته وتفاقمت قدراته، والإيمان يعطي الحصانة التامة عن التبعية بجميع أنواعها سواء الفردية كانت – على مستوى الفرد الواحد – او الجماعية كذلك – على مستوى الجماعة او المجتمع او الدولة – فالإيمان يخلق التحرّر الجماعي فضلاً عن الفردي، أي تعميق الشعور الجمعي بأن العزة لله دون غيرها يخلق مجتمعاً عزيزاً متحرراً من أية هيمنة لقوى أخرى.
فإن أعظم ما عصي به الله منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا الشرك به سبحانه، حتى وصف الله هذا الذنب بالظلم العظيم، فقال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} وما ذلك إلا لما فيه من الجناية العظيمة في حق الخالق جلَّ جلاله. فالله هو الذي خلق، وهو الذي رزق، وهو الذي يحيي، وهو الذي يميت، ومع كل هذه النعم وهذه المنن، فالمشرك يجحد ذلك وينكره، بل ويصرف عبادته وتعظيمه لغير الله سبحانه. ولذلك كانت عقوبة المشرك أقسى العقوبات وأشدها، وهي الخلود في النار؛ قال تعالى في بيان ذلك: {إنّه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة وماواه النار وما للظالمين من أنصار} وكل ذنب مات العبد من غير أن يتوب منه حال الحياة فإمكان العفو والمغفرة فيه يوم القيامة واردٌ إلّا الشرك والكفر، فإن الله قد قطع رجاء صاحبه في المغفرة بقوله تعالي: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}
ومن استقصى تفاسير القرآن يجد أنّ المفسّرين لم يبذلوا جهدهم في بيان الشرك المقصود في الآية والظاهر أنّ سبب الإعراض عن بيان هذا الأمر هو لإرتكاز معنى الشرك عند الكثير واستيفاء البحث عنه في علم الكلام حسب رأيهم، فيجد المفسر نفسه مضطراً أن يغادر أول المحرمات وهي الشرك ليعطف عنان بحثه على المناهي الأخرى؛ إلّا أنّه لا بد من التوقف ولو قليلاً في هذا البحث الشائك الذي أربك الكثير من المسلمين واوقعهم في تناحرات فكرية بسبب الإفراط او التفريط في فهمه مما اوقع البعض في مراتب من الشرك من جهة وأوقع الآخر في تعصبات مذهبية وبل سياسية في كثير من الاحيان تسبب منها ادراج الكثير من الإعتقادات في مجال الشرك واتهام الكثير بمسألة الشرك دون ترو ولا عناية؛ فمثلاً ادخلت الشفاعة في مسألة الشرك، وعدّ التبرك بالقبور شركاً، وجعلت الإستغاثة بالصالحين مصداقاً للشرك، والإحتفالات بذكرى الصالحين ممارسات شركية، والحلف بغير الله شرك، وهكذا يتفاقم مفهوم الشرك من لدى هؤلاء دون وعي وتثبت؛ إلّا أنّنا لا بد أن نقف عند معنى الشرك ونعرّفه تعريفاً يكفل قراءة واعية وموضوعية لهذا المعنى لنجنّب أنفسنا من مطبات فكرية كثيرة.
يقول التهانوي في تعريف الشرك بان: «معناه الإشراك والإعتقاد بشريك للرب الذي لا شريك له وهو على أربعة أنحاء: في الألوهية وفي وجوب الوجود وفي التدبير وفي العبادة ... اعلم أنهم اختلفوا في أنّ لفظ المشرك يتناول الكفار من أهل الكتاب، فانكر بعضهم وقال: اسم المشرك لا يتناول إلّا عبدة ألاوثان لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} فالله تعالى عطف المشركين على اهل الكتاب والعطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه. والأكثرون من العلماء على أن المشرك يتناول الكفار من اهل الكتاب ... وينبغي أن يعلم بأن عبادة غير الله تعدّ شركاً وكفراً فكذلك اطاعة غيره سبحانه على وجه الإستقلال كفر. وهذا يعني أنه لا يعدّ ذلك الغير مبلّغاً لحكم الله فيطيعه ويرى اتباعه لازماً ومع معرفته بان حكم الغير مخالف لحكم الالهي ...»
اذن العنصر الرئيسي في تحقق الشرك هو الإعتقاد بالإستقلالية وهذا من الصعب والنادر جداً تحقّقه في فرق ومذاهب المسلمين. فإن الشرك معناه أنّ الإنسان يرى في الوجود مؤثراً مستقلاً غير الله سبحانه، فان عُبِد هذا الغيرُ – سواء كان صنماً او كوكباً، او انساناً او شيطاناً – كان شرك عبادة، وان لم يعبده ولكن لاعتقاد كونه منشأ أثر، أطاعه فيما لا يرضى الله كان شرك طاعة، والأول يسمى بالشرك الجلي، والثاني يسمى بالشرك الخفي، واليه الاشارة بقوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} وكون الشرك أعظم الكبائر الموبقة وموجباً لخلود النار مما لا ريب فيه وقد انعقد إجماع الامة والآيات والاخبار الواردة به خارجة عن حدّ الإحصاء.
هذا هو الرأي السائد بين علماء المسلمين في بيان الشرك، وهو ما اصطلحوا عليه بالشرك الأكبر المخرج من الملة، وهو على أنواع:
1 ــ شرك في الربوبية: وهو اعتقاد أن ثمة متصرف في الكون بالخلق والتدبير مع الله سبحانه. وهذا الشرك ادعاه فرعون لنفسه: {فَقال أنا ربّكم الأعلى}
2 ــ شرك في الألوهية: وهو صرف العبادة لغير الله، كمن يتقرب بعبادته للأصنام والأوثان ونحوها بدعوى أنها ذات اثر مستقل في الخلق او انها تقرِّب من الله دون برهان وسلطان؛ لانه وحده هو المستحق لجميع أنواع العبادة من الخوف والرجاء والحب والصلاة والزكاة وغيرها من العبادات القلبية والبدنية، فقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} واما اذا امرنا الله نفسه بالمحبة او الولاء لغيره فهذا أيضاً يعتبر مصداقاً للتعبد لله لأنّ محبتنا وولاءنا له ليس استقلالياً بل امتثالاً لأمره تبارك وتعالى فانه قال: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى... }
3 ــ شرك في الأسماء والصفات: وهو إعتقاد أن ثمة مخلوق متصف بصفات الله عزّ وجلّ كاتصاف الله بها، كمن يعتقد أن بشراً يعلم من الغيب مثل علم الله عز وجلَّ او أن أحداً من الخلق اوتي من القدرة بحيث لا يستعصي عليه شيء؛ ولكن من الواضح أنه تبارك وتعالى بامكانه أن يهيّئ لبعض عباده المقربين علوماً غيبية لم يعرفها الآخرون مثل ما فعله للانبياء وما نقلته كتب السيرة عن حياة نبينا الأعظم | في هذا الباب اكثر مما يعدّ ويحصى.
وقد جمع النبي | كل هذه الأنواع في جملة واحدة من جوامع الكلم حين سئل عن الشرك بالله فقال: «أن تجعل لله ندّاً وهو خلقك» والندّ هو المثيل والنظير فكل من أشرك بالله سواء في الربوبية او الألوهية او الأسماء والصفات فقد جعل له ندّاً ومثيلاً ونظيراً.
هذه هي أنواع الشرك الأكبر، ولعلنا نتسع في دائرة التعريف اذا وقفنا على بعض الروايات التي تكفلت هذا المعنى حتى تعدّته الى معانٍ أكثر شمولية وسعة وهو ما اصطلحوا عليه بالشرك الأصغر، فهو وإن لم يكن مخرجاً من الملة إلّا أن صاحبه قد أرتكب ذنباً عظيماً، وإذا لقى العبد ربه به من غير توبة منه في حال الحياة، كان تحت المشيئة إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذّبه ثم أدخله الجنة، ومن أمثلة الشرك الأصغر الحلف بغير الله من غير أن يعتقد الحالف أن منزلة المحلوف به كمنزلة الله عز وجل في الإجلال والتعظيم، فإن من اعتقد ذلك كان حلفه كفراً أكبر مخرجاً من الملة، ومن أمثلته أيضاً قول القائل: ما شاء الله وشئت، ولذلك أمرهم النبي |: إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: وربّ الكعبة، ويقول أحدهم: ما شاء الله ثم شئت.
وللشرك مراتب تشكيكية وهناك بعض مراتبه الخفية التي قد لا تسبب معصية للبعض غير القادر على فهمه والابتعاد عنه وهي خاصة بالمقربين، ففي نهج البلاغة يتحدث الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب × عن التوحيد الذي هو ضد الشرك، فتعريف التوحيد سيفتح لنا آفاق المعرفة في تعريف الشرك بشكله الأوسع فقال ×: «أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الاخلاص له وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كل صفة انها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف انه غير الصفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله، ومن جهله فقد اشار اليه، ومن أشار اليه فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدّه ومن قال "فيم" فقد ضمّنه، ومن قال "علام؟" فقد اخلى منه، كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم.» وقال ×: «وأشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له، شهادة ممتحناً اخلاصها، معتقداً مصاصها.»
وقوله ×: «واعلم يا بني انه لو كان لربك شريك لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنه اله واحد كما وصف نفسه، لا يضاده في ملكه احد، ولا يزول أبداً ولم يزل، أول قبل الأشياء بلا أولية، وآخر بعد الأشياء بلا نهاية.»
إن معرفة الشرك تتضح بمعرفة النقيض وهو التوحيد، لذا فاننا نجد الإمام أمير المؤمنين × أكّد التوحيد لينفي من خلاله الشرك أي اثبات النقيض ليرتفع الآخر وهو جهد عرف بها الامام علي في توجيهاته وخطبه التوحيدية وقد أغنى الفكر الإسلامي بهذه المنهجية التوحيدية التي أثـّرت على الثقافة الإسلامية بكل توجهاتها. على أنّنا لا نغفل عن حقيقة الشرك بمراتبه الظاهرية منها والباطنية فيها، فالشرك الظاهر – كما لـمّحنا عنه – هو جعل شريك مع الله سواء كان بشراً ام حيواناً لما يفعله بعض الاقوام او مخلوقات أخرى كالنجوم والشمس وغيرها وكل ذلك ظاهراً لا يخفى، اما الشرك الخفي فهو كل ما من شأنه ان يكون سبباً في اشراك الغير مع الله تعالى، لذا فان ادنى مراتب الشرك هو الرياء كما ورد عن الامام الباقر ×: «أدنى الشرك الرياء.» لأنّ العبادة لا تكون إلّا لله وحده خالصة دون شائبة في حين سيكون الرياء عاملاً مهماً في تشريك الغير مع الله فلا يكون عمله خالصاً ولا عبادته محضة بل تكون نية الفرد مشتركة في عبادته بين الله وبين الغير الذي يرائي الانسان في عبادته اليه.
المبحث الثالث: الوصايا السلوكية
وبعد الوصية العقدية الوحيدة التي تشكّل الحجر الأساس للوصايا الأخرى، تبدأ الوصايا الأخلاقية المتعلقة بسلوك الإنسان، وهي سبعة وصايا تشمل القول والفعل:
1 ــ الإحسان بالوالدين: وقد تعرّضنا لإعراب صدر الآية الوارد فيه النهي والذي يتعلق به النواهي الباقية وعليه يتضح أن قوله تعالى «وبالوالدين إحساناً» أي ينهاكم عن معصيتهما ويأمركم بالاحسان إليهما، وأشار القرطبي الى ذلك بقوله: «والاحسان الى الوالدين برّهما وحفظهما وصيانتهما وامتثال امرهما وازالة الرق عنهما وترك السلطنة عليهما واحساناً نصب على المصدر، وناصبه فعل مضمر من لفظه، تقديره واحسنوا بالوالدين احساناً.»
والجدير ذكره أنّ الإحسان للوالدين لم يقتصر على الشريعة الإسلامية بل كان ذلك عهداً معهوداً لبني إسرائيل كما شهد على ذلك القرآن الكريم بقوله تعالى {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً... } فالتشديد على بر الوالدين هي شريعة سماوية لا تختص بدين سماوي دون غيره وقد أكّدها القرآن بآيات عدة منها قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّك أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَك الْكبَرَ أَحَدُهُمَا او كلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا َوقُل لَّهُمَا قَوْلاً كرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} والملاحظ هنا التشديد على برّ الوالدين وإكرامهما وعدم التجاوز عليهما بقول او فعل، بل يصل الأمر الى عدم القول لهما بما يغضبهما حتى على مستوى التضجّر منهما والمتمثل بكلمة «اف» وهو ادنى مراتب الإغضاب لهما فكيف بما فوقها، أي أنّ الاسلام نجح في تحديد مراتب الإيذاء، فنهى عن أقلهما واكثرهما بالأولوية منهيّ عنه وهو الشتم والضرب وما فوقهما من المراتب، في حين تجد ان المحرمات العشر في الديانتين اليهودية والنصرانية تضمنت الأمر بشكل عام بإكرام الوالدين دون تحديد المراتب.
وفي السنة والسيرة النبوية أقوال وأفعال كثيرة تشدّد على إكرام الوالدين وتبين دائرته الواسعة، فقد ورد عن النبي | قال: «رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما.» وروي عنه |: «يفعل البار ما يشاء ان يفعل فلن يدخل النار، ويفعل العاق ما يشاء ان يفعل فلن يدخل الجنة.» وعن سعيد بن المسيّب: إنّ البارّ لا يموت ميتة سوء.
وقال رجل لرسول الله |: «إنّ أبويّ بلغا من الكبر أنّي ألي منهما ما وليا مني في الصغر، فهل قضيتهما؟ قال |: لا، فانهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك وانت تفعل ذلك وانت تريد موتهما.» وشكا رجل إلى الرسول | أباه وأنّه يأخذ منه ماله، فدعا به فاذا شيخ كبير يتوكأ على عصا فسأله فقال: «انه كان ضعيفاً وأنا قوي، وفقيراً وأنا غني، فكنت لا امنعه شيئاً من مالي، واليوم أنا ضعيف وهو قوي، وأنا فقير وهو غني، ويبخل علي بماله» فبكى رسول الله | وقال: ما من حجر ولا مدر يسمع هذا إلّا بكى، ثم قال للولد: «انت ومالك لأبيك، انت ومالك لأبيك.»
وعن النبي | قال: «إياكم وعقوق الوالدين، فان الجنة توجد ريحها من مسيرة الف عام ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان، ولا جار ازاره خيلاء، ان الكبرياء لله رب العالمين.»
وعن حذيفة انه استأذن النبي | في قتل ابيه وهو في صف المشركين، فقال |: «دعه يليه غيرك.» وسُئل الفضيل بن عياض عن بر الوالدين، فقال: ان لا تقوم إلى خدمتهما عن كسل. وسئل بعضهم فقال: ان لا ترفع صوتك عليهما، ولا تنظر شزراً اليهما، ولا يريا مخالفة في ظاهر ولا باطن وان تترحم عليهما ما عاشا وتدعو لهما اذا ماتا وتقوم بخدمة اودّائهما من بعدهما. فعن النبي |: «إن من أبرّ البرّ أن يصل الرجل أهل ودّ أبيه.»
وقد بينت الآيات والروايات، ادنى مراتب الإحسان والإساءة اليهما؛ وما بينهما يجد الباحث مساحة واسعة من الحقوق التي يجب أداءها ومن المحرمات والعقوق التي يجب تجنبها. ولأهمية هذا الامر فان ائمة المسلمين أكّدوا ضرورة التزام الحدود المقررة في التعامل مع الوالدين ولا يمكن حصرها وحدها بل هو امر يتعلق بامكانية المكلف في التعاطي مع الوالدين.
روى محمد بن مروان عن ابي عبد الله الصادق × انه قال: «إنّ رجلاً أتى النبي | فقال: يا رسول الله اوصني فقال: لا تشرك بالله شيئاً وان حرقت بالنار وعذبت إلّا وقلبك مطمئن بالايمان، ووالديك فاطعهما وبرّهما حيين كانا او ميتين، وان أمراك ان تخرج من اهلك ومالك فافعل، فان ذلك من الايمان.»
وعن ابي الحسن موسى الكاظم × قال: «سأل رجل رسول الله |: ما حق الوالد على ولده؟ قال: لا يسميه باسمه، ولا يمشي بين يديه ولا يجلس قبله، ولا يستسب له.»
ولم يتوقف البرّ في حياة الأبوين بل يتعدى الى ما بعد موتهما فان باب البر مفتوح حتى بعد حياتهما، قال ابو عبد الله جعفر بن محمد الصادق ×: «ما يمنع الرجل منكم ان يبر والديه حيين وميتين يصلي عنهما ويتصدق عنهما ويحجّ عنهما ويصوم عنهما، فيكون الذي صنع لهما، وله مثل ذلك، فيزيده الله عز وجل ببرّه ووصلته خيرًا كثيراً.»
وقد شدّد أئمة أهل البيت ^ على برّ الوالدين حتى انهم لم يرخصا في عقوق الفاجرين منهما فإنّ حقوقهما على الولد لم تسقط بل تبقى محفوظة، وأيّ دين يحفظ حقوق الاخرين وإن اختلف معه في فكره ومبادئه؟
وعن ابي جعفر الباقر × قال: «ثلاث لم يجعل الله عز وجل لاحد فيهن رخصة: أداء الامانة الى البر والفاجر، والوفاء بالعهد للبر والفاجر، وبر الوالدين برين كانا او فاجرين.»
وفي حديثه يذكر الامام الصادق × الحقوق المتبادلة بين الولد وابيه فيقول: «ويجب للوالدين على الولد ثلاثة اشياء: شكرهما على كل حال، وطاعتهما فيما يأمرانه وينهيانه عنه في غير معصية الله، ونصيحتهما في السر والعلانية ...»
2 ــ النهي عن قتل الأولاد: من المناهي التي نهى الله تعالى عباده عنها هو قتل الأولاد، وقد كان هذا كالسنة الجارية بين العرب في الجاهلية لتسرع الجدب والقحط الى بلادهم فكان الرجل اذا هدّده الافلاس بادر الى قتل اولاده تأنّفاً من أن يراهم على ذلة العدم والجوع. وقال القرطبي في تفسير الآية: {ولاتقتلوا اولادكم من إملاق} الإملاق: الفقر أي لا تئدوا بناتكم خشية العيلة، فاني رازقكم واياهم، وقد كان منهم من يفعل ذلك بالإناث والذكور خشية الفقر كما ظاهر الآية... ثم يستدل على ذلك بحكم فقهي وهو جواز العزل او عدمه فقال: وقد يستدل بهذا من يمنع العزل، لأن الوأد يرفع الموجود والنسل؛ والعزل منع اصل النسل فتشابها؛ إلا ان قتل النفس اعظم وزراً وأقبح فعلاً ولذلك قال بعض علمائنا، إنه يفهم من قوله × في العزل ذلك الوأد الخفي الكراهة لا التحريم...
إلّا أنّ الظاهر النهي عن قتل الولد بعد ولادته فهو مخلوق يصح إطلاق الفعل عليه وهو القتل أما العزل فلم يكن هناك ما يبرر إطلاق القتل على غير المخلوق؛ لذا فلا نجد هناك مناسبة بين قتل الأولاد والعزل فالموضوع يختلف فلا مناسبة بين الحكم والموضوع. وقد اشرنا الى هذا الحكم كما اشار اليه القرطبي من باب التوسعة في فائدة البحث.
قال الطوسي في التبيان: وقوله «ولا تقتلوا اولادكم من إملاق» عطف بالنهي على الخبر، لأن قوله «ولا تقتلوا» نهي، وقوله اوصى ألّا تشركوا به شيئاً، واوصى بالوالدين إحساناً خبر، وجاز ذلك كما جاز في قوله {قل أني امرت ان اكون اول من اسلم ولا تكونن من المشركين} والإملاق: الافلاس من المال والزاد يقال: املق املاقاً ومنه الملق لانه اجتهاد في تقرّب المفلس للطمع في العطية.
ويبدو ان ذكر النهي عن قتل الأولاد بعد النهي عن عدم عقوق الوالدين لمناسبة الحقوق المتبادلة بين الفريقين، فكما هو التأكيد على تكريم الآباء والإحسان اليهم، فان حقوق الأولاد لا بد أن تكون محفوظة وأنّ وجودهم مصان فلا يتعرضون الى القتل بسبب الخوف من الفقر، فإنّ رزقهم موكول الى الله تعالى فهو كافلهم كما هو سبحانه كافل آبائهم بارزاقهم، وهذه الثقافة أكّدها الاسلام ليلغي ما كان يتحمله الآباء من وزر قتل اولادهم بغير حق.
وفي رسالة الحقوق للإمام زين العابدين علي بن الحسين × يقول: «واما حق ولدك، فتعلم أنّه منك ومضاف اليك في عاجل الدنيا بخيره وشره، وأنّك مسؤول عما وليته من حسن الادب، والدلالة على ربه والمعونة له على طاعته فيك وفي نفسه، فمثاب على ذلك ومعاقب، فاعمل في امره عمل المزين بحسن اثره عليه في عاجل الدنيا، المعذر الى ربه فيما بينك وبينه بحسن القيام عليه، والاخذ له منه، ولا قوة إلّا بالله.»
3 ــ اجتناب الفواحش: النهي الرابع هو الإقتراب الى الفواحش، ومعنى الإقتراب معاطاتها وممارستها، والفواحش جمع فاحشة وهي الأمر الشنيع المستقبح، وقد عد الله منها في كلامه الزنا واللواط وقذف المحصنات والظاهر أنّ المراد مما ظهر ومما بطن، العلانية والسر كالزنا العلني واتخاذ الأخدان والأخلّاء سراً.
وقد جاء النهي عن الفاحشة بعد قتل الأولاد لمناسبتها على ما يظهر؛ لأن الأمرين إخلال بالامر العام وشيوع الاضطراب؛ إذ من ملازمات الإنفلات الأمني هو القتل والزنا أي أنّ الاعتداء على النفوس والاعتداء على الأعراض هو نتائج الأزمة الأمنية لأي مجتمع لذا جاء النهي عن الفاحشة بعد النهي عن القتل.
ولم يحدّد المفسرون الفواحش المنهيّ عنها بل جعلوا كل القبائح في عداد المنهيّ عنه، أي كل ما يستنتج من عمل إلّا أنّها تنصرف الى نوعين وهي الظاهرة منها والباطنة أي العلنية والسرية، وهنا لا بدّ أن نتوقف عند قول الطوسي في تفسيره للآية اذ اوضح استعمالاتها اللغوية فضلاً عن تفسير الآية مستنداً الى الأقوال الواردة فيها فقال: وقوله «ولا تقربوا الفواحش» نهي عن الفواحش وهي القبائح وقيل الفاحش: القبيح العظيم... قال الرماني ويدخل في الآية النهي عن الصغير، لأن قرب الفاحش عمل الصغير من القبيح. وقوله «ما ظهر منها وما بطن» قيل في معناه قولان: احدهما عن ابن عباس والضحاك والسدي: كانوا لا يرون بالزنا بأساً سراً، ويمنعون منه علانية، فنهى الله عنه في الحالتين. الثاني: لئلا يظن ويتوهم ان الاستبطان جائز. وقال ابو جعفر الباقر ×: ما ظهر هو الزنا، وما بطن المخالة (أي: المصادقة). وقيل: معناه ما علن وما خفي يعني من جميع انواع الفواحش وهو أعم فائدة.
ووافقه على ذلك الفخر الرازي في تفسيره الكبير بقوله: «ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن» قال ابن عباس: كانوا يكرهون الزنا علانية ويفعلون ذلك سراً، فنهاهم الله عن الزنا علانية وسراً، والأولى ان لا يخصص هذا النهي بنوع معين، بل يجري على عمومه في جميع الفواحش ظاهرها وباطنها لأن اللفظ عام والمعنى الموجب لهذا النهي وهو كونه فاحشة عام ايضاً ومع عموم اللفظ والمعنى يكون التخصيص على خلاف الدليل؛ وفي قوله «ما ظهر منها وما بطن» دقيقة وهي: إنّ الانسان اذا احترز عن المعصية في الظاهر ولم يحترز منها في الباطن دل ذلك على ان احترازه عنها ليس لأجل عبودية الله وطاعته، ولكن لأجل الخوف من مذمة الناس، وذلك باطل، لأن من كان مذمة الناس عنده أعظم وقعاً من عقاب الله ونحوه فإنّه يخشى عليه من الكفر، ومن ترك المعصية ظاهراً وباطناً، دلّ ذلك على أنه إنما تركها تعظيماً لأمر الله تعالى وخوفاً من عذابه ورغبة في عبوديته.»
ومن روائع التعليلات في هذه الآية ما روي عن جعفر بن محمد الصادق × قوله: «ان الله تبارك وتعالى غيور يحب كل غيور، ولغيرته حرم الفواحش ظاهرها وباطنها.» فالامتناع عن ممارسة الفاحشة يضمن للفرد خلقاً قويماً، وللمجتمع استقراراً تأنس من خلاله النفوس، وتعمل فيها الطهارة في القلوب، وتستوجب من خلالها الالفة والعيش الكريم.
إنّ أهم ما يهدد المجتمع هو الفشل في إحترام الإنسان بكيانه وشخصيته المتمثل بمشاعره الكريمة، أما اذا امتهن الانسان بممارسات غير انسانية كالاعتداء عليه وإلغاء كرامته باباحته الجنسية فيعني أنّ انسانيته لم تكتمل بعد وأنّه عرضة للامتهانات التي يرتكبها الآخرون، والرغبة الجنسية بجموحها لابد ان تذعن للانقياد والترويض وان تأخذ سبل السلوك الانساني الرشيد نتيجة الالتزام الديني الذي يمثل الخلق القويم. وقد شدّد الخطاب القرآني في لهجته في الانكار على الممارسة الجنسية غير الشرعية فلم يكتف بما تقدم من النهي في الآية الكريمة بل عزّزها بآيات أخرى تنهى عن الفاحشة وتأمر بالتقوى على أن الخطاب القرآني لم يكتف بالنهي العمومي الذي ورد في الآية الكريمة بل خصص النهي كذلك بالنساء كونهن المعنيات بهذا الامر وأنهن الغاية في هذا العمل فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فالآية تأكيد لما قدمنا من المناهي الواردة في سورة الانعام والتي تؤكد على احترام حدود الله وعدم التعدي عليها. ولا يفوتنا أن نؤكد ما اوصى به النبي | وأهل بيته من ضرورة الابتعاد عن الزنا الذي هو اظهر مصاديق الفاحشة وأشدّها.
ولم يكتف الائمة بتبيين الآثار التكليفية للزنا وهو الحرمة وحدها، بل بيّنوا الآثار الوضعية الدنيوية لهذه الفاحشة. فعن ابي جعفر الباقر × قال: «وجدنا في كتاب رسول الله |: إذا ظهر الزنا من بعدي كثر الموت الفجأة.» فاستشراء الزنا في المجتمع ستنعكس نتائجه عليه وهي كثرة موت الفجأة الذي يهدد المجتمع ويأذن بفنائه، ولعل هذا أثر وضعي ناجم عن امر غيبي او كون الزنا يسبب امراضاً تؤدي الى موت الفجأة. وعن ابي عبد الله الصادق × عن ابيه × قال: «للزاني ست خصال: ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة اما التي في الدنيا فيذهب بنور الوجه ويورث الفقر، ويعجّل الفناء، واما التي في الآخرة فسخط الربّ وسوء الحساب والخلود في النار.»
والمتأمل في حديث الامام الرضا × يجد الملازمة بين الزنا وقتل النفس، فالآيات الكريمة في سورة الانعام تؤكد على المحرمات العشر التي عدّتها وجاء ترتيب قتل النفس بعد الزنا لما هناك من ملازمات وترابط بين الموردين: {... وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ...} وكأن الخطاب القرآني ملتفت الى هذا التلازم بين الزنا وبين القتل، والذي أكد هذا التلازم الامام علي بن موسى الرضا × في جوابه لمسائل محمد بن سنان: «وحرّم الله الزنا لما فيه من الفساد من قتل النفس وذهاب الانساب، وترك التربية للاطفال وفساد المواريث وما اشبه ذلك من وجوه الفساد.»
ولابد أن نستذكر أنّ أئمة اهل البيت ^ أشاروا الى امر مهم، وهو أن الاعتداء على الاعراض بالممارسات الفاحشة سيكون له اثره الوضعي على الممارس نفسه، فهو سيلاقي نفس المصير الذي اختاره لغيره حيث يرى سوء عمله وعاقبة اعتدائه على الاعراض التي يجب أن تصان لا أن تنتهك وتخزى، والظاهر أنّ هذه الممارسة الفاحشة في انتهاك الاعراض تؤول الى سوء التربية واللامبالاة في تعزيز روح الثقة والحشمة لدى اسرته فتنخرط هذه الاسرة الى المصير السيّء الذي ينتظرها بسبب سوء التربية وعدم العفة التي تسود علاقات هذه الاسرة فينتج منها الانحراف الاخلاقي الذي أجلى مصاديقه الزنا، وهذا ما يخبرنا به الامام الصادق ×: «إنّ الله اوحى الى موسى ×: لا تزنوا فتزني نساؤكم ومن وطئ فراش امرئ مسلم وطئ فراشه، كما تدين تدان.»
ولابد ان نتمعن في هذا التوزيع الذي اشار اليه الامام الصادق × في شمولية الزنا لجميع الاعضاء فالممارسة لم تقتصر على عضو معين، بل بامكان جميع الاعضاء أن تشترك في هذه الفاحشة المقيتة فالعين والفم واليدين وغيرها من الجوارح يمكن أن تساهم في هذا الفعل السيّء اذا لم يكن الانسان ملتفتاً الى مغبّة ما يرتكبه من عمل قبيح. فعن ابي جعفر الباقر وابي عبدالله الصادق ’: «ما من أحد إلّا وهو يصيب حظّا من الزنا، فزنا العينين النظر، وزنا الفم القبلة، وزنا اليدين اللمس، صدّق الفرج ذلك ام كذب.» أي تحمس الفرج باللذّة ام لا، فهو يدخل في مصداق الزنا ومفاهيمه المتكاثرة.
إنّ الوصايا العشر تؤكد في جملتها الإبتعاد عن هذه الفاحشة للنهوض بمجتمع مسؤول يرفض كل دواعي الهيمنة الغريزية ليحل العقل وتتحكم الفطرة في قراراته. فإنّ تفشّي هذه الظاهرة في مجتمعات تدعي الحضارة في غاية البلادة، اذ كيف تحافظ هذه المجتمعات على قانونية علاقاتها بعد أن تتسبّب في اباحاتها الجنسية ودوافعها غير المنضبطة. فالمجتمعات الاباحية متمرّدة على فطرتها فضلاً على تعاليمها الدينية اذ ما من مجتمع إلّا ولديه ميثاق ديني يدعوه الى العمل للكمال وعدم الخضوع لشهوة النفس الغريزية الجامحة.
4 ــ النهي عن قتل النفس المحترمة: من الوصايا التي أكّدتها الآية الكريمة هي النهي عن قتل النفس، فالمجتمعات التي تصبو الى حياة سعيدة هانئة لابد أن يسود السلام وينبعث الوئام من العلاقات التي تحكم افراده لئلا يتفشى الظلم وتنتهك القيم بالاعتداء على افراده وتزهق ارواح الابرياء دون موجب. ان الآية لا تشير الى العلاقات الفردية وحدها بل لابد أن تحكم المجتمعات انظمة تمارس الحرية الفردية والجماعية في علاقاتها. بمعنى آخر أنّ تثبيت اسس الديمقراطية في المجتمع المحكوم ومن قبل الحاكم أمر ضروري لابد أن يستبقي الحاكم حيوية السلام والوئام بين الجميع فاذا خلت الامة من ذلك انتقصت قيمها واستئصلت شأفتها وذلك اذا عم الفساد واستشرى القتل فلا امن ولا أمان ولا تحابب ليكون مجتمع غاب تحكمه القوة وتملكه الغلبة.
وفي الآية تأكيد على بشاعة القتل، وقد ذكر الطبرسي في تفسيره: «إلّا ما استثني وهو تنفيذ الاوامر الالهية في الجفاة الشرعيين الذين ينطبق عليهم قانون الموت الشرعي وهو القتل بسبب شرعي كالقود وغيره حيث أعاد ذكر القتل وإن كان داخلاً في الفواحش تفخيماً لشأنه وتعظيماً لأمره والنفس المحرّم قتلها هي نفس المسلم والمعاهد دون الحربي، والحق الذي يستباح به قتل النفس المحرم قتلها ثلاثة أشياء، القود والزنا بعد إحصان والكفر بعد ايمان.»
وقد قسّم القرطبي قتل الحق الى اقسام وذكر منها ما يسبّب الفرقة في الامة حتى أنّ الامر يصل الى المدعي للخلافة فيقتل الذي يدعي الخلافة مقابل الخليفة الذي بويع له فقال كما رواه عن مسلم في صحيحه: «اذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» وفي تفسير الدرّ المنثور روى السيوطي عن سلمة بن قيس الاشجعي قال: قال رسول الله | في حجة الوداع: «ألا إنما هي اربع: لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلّا بالحق، ولا تترفوا، ولا تسرقوا، فما انا بأشح عليهن مني اذ سمعتهن من رسول الله |»
ولا تخصيص بالنفس المؤمنة كما هو عليه اطلاق الآية الكريمة، فالإطلاق يشمل النفس المؤمنة وغير المؤمنة اذ المراد من ذلك المنحى الانساني الذي يؤكده القرآن الكريم؛ فلا علاقة للانتماء الديني بحفظ النفس، فالتعدي على النفوس – وان كانت غير مؤمنة – امر حذرت منه الآية الكريمة ونهى عنه القرآن الكريم، واوصى بحفظ النفوس إلّا ما استثني منها كالقود وغيره او المتعدية بغير حق من باب الدفاع عن النفس أمّا غير ذلك فلا يحق التجاوز عليها، هذا اوضحه الآلوسي في تفسيره مؤكداً ضرورة ادخال النفس المسلمة منها والذمية عدا المحاربة فقال: «أي حرّم قتلها بأن عمها بالاسلام او بالعهد فيخرج الحربي ويدخل الذمي.
فما روي عن ابن جبير من كون المراد بالنفس المذكورة النفس المؤمنة ليس في محله «إلّا بالحق» استثناء مفرغ من اعم الاحوال أي لا تقتلوها في حال من الاحوال إلّا حال ملابستكم بالحق الذي هو امر الشرع بقتلها، وذلك كما ورد في الخبر «بالكفر بعد الايمان والزنا بعد الاحصان وقتل النفس المعصومة» او من اعم الاسباب، أي لا تقتلوها قتلاً الا قتلاً كائناً بالحق وهو القتل بأحد المذكورات.»
اذن لم يقتصر النهي على قتل النفس المؤمنة، بل تشمل عدم التعدي على النفس الذمية الكافرة لكونها معاهدة غير حربية، فملاك القتل هو انسانية الانسان وليس الانتماء الفكري او العقائدي كما هو معلوم.
إنّ القرآن الكريم لم يقف عند هذه الآية فقط في النهي عن قتل النفس بل وردت آيات عدة في هذا الشأن منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكلُواْ أَمْوَالَكمْ بَيْنَكمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكمْ إِنَّ اللّهَ كانَ بِكمْ رَحِيمًا (29) وَمَن يَفْعَلْ ذَلِك عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكانَ ذَلِك عَلَى اللّهِ يَسِيرًا} فالآية لم تنه عن قتل النفس بنهي مباشر، بل نهت عن ملازمات النهي وهو القتل وهذا ابلغ في الانكار اذ بينت الآية ملازمات القتل القبيحة فعبرت عن النهي بـ «ولا تقتلوا انفسكم» فالقتل يوجب القتل المقابل هو الثأر وكأن القاتل بغير حق قتل نفسه وهو العادة المعروفة عند العرب بل جميع الشعوب اذ ستكون حالة الانتقام والقتل العشوائي متعارفاً في المجتمع الذي لم يلتزم بحدود احترام حفظ النفوس.
وقوله تعالى: {وَمَا كانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكيمًا (92) وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}
فالمؤمن لا يقتل المؤمن متعمداً إلّا أن يخرج عن الايمان، فاذا قتل مؤمناً متعمداً مصراً على ذلك فلا يقال له مؤمن لأن من حقوق المؤمن على المؤمن حفظه نفسه وماله وعرضه فان ذلك عليه حرام أمّا التعرّض لقتله فذلك من موجبات الخروج عن الايمان. وكم سمعنا ما فعله بعض خلفاء المسلمين من قتل الأبرياء متعمداً وانتهاك حرمات الابرياء لا على أشياء الا لتثبيت مصالحهم السياسية ونظرتهم المتسلطة.
وقوله تعالى: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَك لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْك لَأَقْتُلَك إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِك فَتَكونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِك جَزَاء الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) ... مِنْ أَجْلِ ذَلِك كتَبْنَا عَلَى بَنِي إسرائيل أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ او فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ...} فالآية الكريمة تحكي قصة الصراع الأول بين قابيل وهابيل؛ ذلك الصراع الذي حمل قصة الحسد وارضاء الغرائز التي دفعت بقابيل لقتل اخيه، ولم تنته وصايا آدم وتحذيراته من مغبة تسويلات النفس واتباع الشيطان فكان قابيل مستجيباً لخطيئته، حريصاً على غريزته وشقوته ليظهرها بصورة التعدي وانتهاك الحرمات، فأظهر الفساد في الأرض بقتله لاخيه وتعديه على حرماته، ولم يستجب لمناشدة الاخوة التي اطلقها هابيل وهو يسائله بالله واتباع التقوى وإنه لم يبسط اليه يده ليردّ عليه بنفس القتل الذي اختاره قابيل لينتقم منه لأنه يخاف الله رب العالمين، وانما تركه ليبوء باثمه واثم نفسه فيما اذا أصرّ على ارتكاب هذه الجريمة البشعة وقطيعة الرحم وانتهاك الحرمات.
وقال الله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذاباً عظيماً} كما روى البخاري عن عبد الله بن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله | «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما» وروى عن ابن عمر ايضاً أنه قال: «إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها: سفك الدم الحرام بغير حله»، وقال الامام الصادق ×: «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه مالم يصب دماً حراماً، قال: ولا يوفّق قاتل المؤمن متعمداً للتوبة» وقد كتب الامام الرضا × الى محمد بن سنان يوضح له آثار قتل النفس فقال ×: «حرّم الله قتل النفس لعلة فساد الخلق في تحليله لو أحل، وفنائهم، وفساد التدبير.» بل يصل الامر عند ائمة اهل البيت ^ في التشديد على حرمة القتل هو المقدار الذي يكون سبباً وداعياً لازهاق النفس وانتهاك الارواح فكيف بالقتل نفسه؟! فقد روي عن الامام الصادق ×: «من أعان على مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب على عينيه: آيس من رحمة الله.» فالاعانة على قتل النفس وازهاقها ولو بشطر كلمة تساهم في قتل الانسان دون حق فأن ذلك موجب لغضب الرب وعدم امكان المغفرة وكونه قد ارتكب أمراً خطيراً وذنباً عظيماً.
وفي مشهد مروع يصف النبي | عاقبة القاتل، فانه يلقى في مكان تستعر منه النيران أي هو مصدر العذاب والبلاء. فقد قال رسول الله |: إن في جهنم واديا يقال له: سعيراً، اذا فتح ذلك الوادي ضجت النيران منه، أعدّه الله تعالى للقتالين. بل إنّ النبي | يصف الاثر الوضعي على نفس الأرض التي يراق عليها دم بغير حق فإنّها تعجّ الى ربها مستصرخة من ثقل ما ارتكب على ظهرها. قال رسول الله |: «ما عجّت الأرض الى ربها كعجتها من دم حرام يسفك عليها.» وهذا بيان عظيم بقوله النبي| في كون المؤمن في حرمته كحرمة الدنيا في الابقاء عليها، فعن النبي | قال: «لزوال الدنيا ايسر على الله من قتل المؤمن.»
وهكذا فإن حرمة قتل النفس نستشعرها من الآيات الكريمة فضلاً عما ورد عن التشديد في روايات النبي | وأهل بيته الطاهرين ^.
وتختم الآية الكريمة بالتأكيد على الوصايا والتشديد على الالتزام بها وذلك في قوله تعالى: {ذَلِكمْ وَصَّاكم ْ بِهِ لَعَلَّكمْ تَعْقِلُونَ} ففي تفسيره للآية الكريمة يشير السبزواري بقوله: تأكيد لتلك المناهي الخمسة التي شرعت لاجل صلاح الفرد والمجتمع، وكما التأثير الكبير في سعادتهما، وتشمل المصالح الدنيوية والاخروية العليا، وان خلافها لا يكون إلّا مزاعم أهل الشرك وأرباب الجهل وتخرصاتهم، وقد ذكرها عز وجل لطفاً بعباده ورعاية لشؤونهم، لما تتضمن كلمة «وصاكم» من الرحمة والرأفة، وفي جعلهم اوصياء له تعالى فيه من الاحسان لهم كما لا يخفى. وفي تخصيص العقل بالذكر لأنه مناط التكليف والمعرفة، وقد علل سبحانه تلك المناهي بقوله "لعلكم تعقلون" لما فيه من الدلالة على الحسن الذاتي الذي يدركه العقل قبل الشرع الذي يكون ارشاداً له، ولا يخفى في ذكر من التعريض بالمشركين، بأن ما هم عليه مما لا يقرّه العقل ولا يصدر من عاقل.
إنّ نظرة العقل السليم التي يحملها القرآن من خلال هذه الوصايا تظهر آفاق السلام والوئام الذي يطمح اليه الاسلام في تكوين مجتمع يسوده التسامح ويطمح لتكوين علاقات اجتماعية تربطها المحبة المتبادلة، لذا فأن النبي محمداً | حينما اسس المجتمع المدني في المدينة المنورة أخذ في اولويات اطروحته الاصلاحية التباني الاجتماعي على السلام والتسامح حيث بادر | الى خلق روح المحبة والتصالح بين الفريقين المتناحرين من الانصار وهما الاوس والخزرج اللذان كانت تحكمهما حروب مستمرة قائمة بين الطرفين قد حقق النبي | صلحاً دائماً بينهما وقضى على النعرة القبلية التي تهيمن على العلاقات العامة التي تحكمهما، كما أنه | آخى بين الانصار والمهاجرين ليبعد عنهما شبح الفكر القبائلي الحاكم والتنافس السائد بين الجميع، ومن هنا فقد قضى | على احتمالية التقاتل التي تصادفت في مثل هذه المجتمعات القبائلية.
5 ــ ولا تقربوا مال اليتيم الا بالتي هي احسن: وهي الوصية الخامسة التي سعت الآية الكريمة الى بيانها، وهي من متطلبات المجتمع السعيد الذي يسعى الى حفظ الحقوق والحرمات، فأموال اليتامى في عهدة المجتمع الذي يهدف الى تربية انسان سوي يشارك في بناء مجتمع متكامل، فالايتام يشكلون نسبة غير قليلة – خصوصاً في ايامنا هذه ايام الحروب والانتهاكات الانسانية – وهم اذا ما احتواهم مجتمعهم بما يضمن سلامة حقوقهم فإنّ دوراً واضحاً سيصيب هذه الشريحة الكبيرة وستشل ولا تقوى على التفاعل مع مجتمعها لتكون مفردة نافعة سليمة.
وفي الآية الكريمة تأكيد على عدم أكل مال اليتيم وللتشديد على ذلك فقد استعمل القرآن لفظ «ولا تقربوا» ولم يقل «ولا تأكلوا» وذلك للدلالة على التشديد والتحذير من الاقتراب الى مال اليتيم يعني استعمالاته بكل انحائها والتصرف به بكل معاني التصرف الذي يضر بمصلحة اليتيم،وهذا البيان أبلغ في النهي من القول: لا تأكلوا مال اليتيم وأشد انكاراً على من تلاعب وتصرف بالمال بغير حق.
يقول القرطبي في تفسيره للآية الكريمة: «أي بما فيه صلاحه وتثميره، وذلك بحفظ اصوله وتثمير فروعه، وهذا احسن الاقوال في هذا، فانه جامع، قال مجاهد: «ولا تقربوا مال اليتيم إلّا بالتي هي أحسن» بالتجارة فيه، ولا تشتري منه ولا تستقرض.»
ويستفاد من كلام القرطبي هو الحجر على مال اليتيم وازوائه عن التعامل بكل حالات البيع والشراء وغير ذلك. وارى هذا ضرراً على اليتيم وظلماً له اذا عمّمنا كل التصرفات بما في ذلك النافعة منها والتي تصبّ في مصلحة اليتيم، اذ كيف تمنع التعامل معه وان كان في مصلحته؟ فلو كانت أموال اليتيم عرضة للفساد والخراب وكلما تقادم الزمن عليها تعرضت للكساد والخراب ونزلت قيمتها السوقية حتى اذا كبر اليتيم ووجد ماله لا مال له فهل نصحح ذلك بحجة عدم جواز التصرف بمال اليتيم؟
الظاهر أنّ التصرفات الاعتباطية وغير المجدية والتي يحتمل احتمالاً قوياً بسببها نضجه وربحه فإنّ ذلك مما يقرّه العقلاء وخلافه يلومه العقلاء، لأنّ في ذلك ضرراً على اليتيم، ولذا فإن بعض المفسرين إعطوا ثلاث معانٍ لقوله تعالى: «إلّا بالتي هي احسن» احدها: حفظه له الى أن يكبر فيسلّم اليه. والثاني: معناه تثميره بالتجارة في قول مجاهد والضحاك والسدي. والثالث: ما قاله ابن زيد: ان يأخذ القيم عليه بالمعروف دون الكسوة.
وقوله: «حتى يبلغ أشدّه» اختلفوا في حدّ الأشدّ، فقال ربيعة وزيد بن اسلم ومالك وعامر الشعبي: هو الحلم. وقال السدي: ثلاثون سنة، وقال قوم: ثماني عشر سنة لأنه اكثر ما يقع عندهم البلوغ واستكمال العقل. وقال قوم: إنه لا حدّ له وإنما المراد به حتى يكمل عقله ولايكون سفيها يحجر عليه، والمعنى حتى يبلغ اشده فيسلّم اليه ماله او يأذن في التصرف في ماله، وحذف لدلالة الكلام عليه. وهذا اقوى الوجوه.
ولم يقتصر النهي عن التصرف بمال اليتيم على هذه الآية وحدها بل تعرّضت الكثير من الآيات القرآنية الى ذلك النهي المشدد كقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إسرائيل لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ}
فالنهي عن التصرف في مال اليتيم هو الميثاق المأخوذ على بني إسرائيل إلّا انهم تولوا عنه ألّا قليلا منهم، والآية الكريمة تجعل المحافظة على مال اليتيم كالمحافظة على الصلاة وايتاء الزكاة بل الميثاق يشمل التوحيد بالله كما هو يشمل الحفاظ على مال اليتيم وعدم الاضرار به.
وقوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكةِ وَالْكتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ اولَـئِك الَّذِينَ صَدَقُوا وَاولَـئِك هُمُ الْمُتَّقُونَ}
فالدين ليس العبادة وحدها في نظر الاسلام، بل الدين هو مجموعة الممارسات الانسانية التي يمارسها الفرد مع غيره ومع مجتمعه، ومن تلك الممارسات الانسانية فضلاً عن العبادة هو العمل للحفاظ على مال اليتيم واستقراره اجتماعياً واقتصادياً وهذا أروع تشريع اقتصادي اجتماعي يسعى اليه قانون من القوانين مهما بلغ تقدمه وانسانيته.
والآيات القرآنية في هذا الشأن كثيرة كما في سورة البقرة: 220، وسورة النساء: 2 ــ 10 و 127، والإسراء: 134، والإنسان: 8، والفجر: 17 ــ 18، والبلد: 14،5 والضحى: 9، والماعون: 2 الى غير ذلك من الآيات الكريمة المؤكدة حفظ مال اليتيم وأن لا يضيع في مجتمع أسِس على مراعاة الضعيف والذب عنه وحفظه والحرص على حقوقه وهل هناك أوضح مصداقاً من اليتيم الذي لا يقوى على دفع الضرر عن نفسه ولا جلب الخير إليها؟
ولم يقف الامر عند الآيات الشريفة بل تعدى ذلك الى الروايات والأحاديث التي حثت على التخلق بهذا الخلق الفاضل والتحلي بهذه المسؤولية العظيمة وهي الحفاظ على مال اليتيم والدفاع عن حقوقه.
فعن النبي |: «شر المأكل أكل مال اليتيم ظلماً.» وعن الامام امير المؤمنين ×: «أدّب اليتيم مما تؤدب منه ولدك، واضربه ممّا تضرب منه ولدك.» أي أن يكون اليتيم بمنزلة الولد في التربية والآداب، وكما الحرص على الولد في حسن سلوكه فكذلك اليتيم لابد أن يكون المجتمع مسؤولاً في الحرص على تربيته وأدبه وسلوكه. وفي بيان حرمة أكل مال اليتيم بيّن النبي | ما يمكن ان يرتدع منه قال: «لما اسري بي الى السماء رأيت قوما تقذف في أجوافهم النار، وتخرج من أدبارهم، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون اموال اليتامى ظلما.»
ومن أروع الوصايا التي ذكرها الامام امير المؤمنين × في لحظاته الاخيرة من حياته قال: «الله الله في الايتام، فلا تغبوا افواهم ولا يضيعوا بحضرتكم.» وهذه ابلغ وصية من حيث الزمان والحالة التي يعيشها الامام وهو يحتضر لأنه لم ينس الايتام وحقوقهم.
ومن كلمات النبي | ووصاياه: «كن لليتيم كالاب الرحيم، واعلم انك كما تزرع كذلك تحصد.» والنبي | يريد التذكير أنّ عمل الخير مع اليتيم ينعكس فيما بعد على اولاد المحسن فيما اذا صاروا ايتاماً.
ولا يمكن أن نغفل عن حديثين للنبي | يظهران أهمية رعاية اليتيم، وانه تعالى هو الذي يتكفل حاله ويضمن حقوقه. فقد روي عن رسول الله | انه قال: «إن اليتيم اذا بكى إهتز له العرش، فيقول الرب تبارك وتعالى: من هذا الذي ابكى عبدي الذي سلبته ابويه في صغره؟ فوعزتي وجلالي لا يسكته احد إلّا اوجبت له الجنه.» وعنه |: «اذا بكى اليتيم في الأرض يقول الله: من ابكى عبدي وانا غيبت اباه في التراب؟ فوعزتي وجلالي إنّ من ارضاه بشطر كلمة ادخلته الجنة.»
والحديث عن تكريم اليتيم في الاسلام حديث لا يمكن ان ينتهي بكلمات فهو اطروحة حياة ونظرية انسانية تمتد في اعماق المجتمع وتؤسس لقيم اخلاقية لا يرقى إليها نظام ولا يتصور ردها قانون.
6 ــ وأوفو الكيل: قوله تعالى {وَاوفُوا الْكيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} وهي من الوصايا الاجتماعية التي تنظم حقوق المجتمع وتراعي مصالحه، ويبدو لي ان الكيل غير الميزان وليسا واحدا كما يظهر من اكثر المفسرين، اذ الظاهر ان الكيل ما يمكن ان يتعامل به مع الامور المادية والوزن ما يمكن ان ينطبق على الامور المعنوية، كذلك: يوزن كلام العاقل دون الجاهل؛ لأن الوزن هو القياس على اساس المبادئ والقيم والمباني التي يستخدمها المرء في قياسه للامور اما الكيل فهو آلة تستخدم للامور المادية.
هكذا يمكن أن نفهم الفرق بينهما، وبمراجعة المصادر المختصة يظهر لي ذلك كذلك، فالميزان: العدل. إنّ الاسلام حريص على اشاعة الأمن والسلام وروح الطمأنينة والامان الذي تضمن فرداً متكاملاً يسعى لبناء مجتمعه وامته، ومعلوم أنّ هذا الامر لا يتحقق الا من خلال ضمان الحقوق وعدم التعدي عليها، ومن اهم صور هذه الضمانات الاجتماعية هي احترام حقوق الفرد في الكيل والوزن وعدم بخس الآخرين، فاذا تحققت هذه الامور شاع الأمن والسلام في أرجاء المجتمع وعرف كل فرد أنّ حقه لم يضع وأنّه مضمون لا يمكن التعدي عليه، ولاريب أنّ في هذا الحكم الالهي آثاراً عظيمةً في بث روح الطمأنينة في القلوب وتثبيت التقوى في النفوس، واشاعة الامانة في الافراد، والابتعاد عن أكل الحرام الذي له الاثر الكبير في تهذيب النفس، وقد قصّ الله تعالى في القرآن المجيد من انباء الامم ما حل بهم من جرّاء ظلمهم واعراضهم عن الاحكام الالهية، فقد حكى عن قوم شعيب × ما حلّ بهم جرّاء تطفيفهم في الكيل والميزان، وفي العظة والعبرة لغيرهم، وقد قال رسول الله | لاصحاب الكيل والميزان: «انكم وليتم امراً هلكت فيه الامم السابقة».
والقسط بمعنى العدل، فالابقاء للمكيال والميزان بالعدل، ويرى السيد السبزواري في مواهبه أنّ قيد القسط يفيد: اولاً التحري للقسط مهما امكن. وثانياً: يجب أن يكون من الجانبين، المعطي فإنه يجب عليه ايفاء الحق من غير نقصان كذلك يجب على ذي الحق اخذ حقه من غير زيادة. وثالثاً: أنّه امر لكلّ مسلم بأن يرضى لغيره ما يرضاه لنفسه، فيقيم القسط في جميع اموره.
7 ــ قول الحق: كما في قوله تعالى: {وإذا قُلتُم فَاعدلوا ولو كان ذا قُربى} من أهم الوصايا التي أكّدها القرآن الكريم هو قول الحق، ولابد أن يكون هذا القول ما يترتب عليه النفع والضرر، أي تكون آثاره وليس مطلق القول ولا بد ان يراعى في القول جانب العدل والأمانة ولو كان ذا القربى، إذ العرب توّاقون لحفظ القبيلة والابقاء على حال العلاقة بينهم من لوازم هذه القبلية، والعصبية القبلية تتحكم في كثير من القرارات، فلذا القرآن الكريم وقف على جانب مهم من تحديد العلاقة بين الافراد وأنّ النعرة القبلية تستلزم حالة الانحياز الى جانب دون آخر فـذكر ذي القربى وهو الذي تدعوه عاطفة القرابة والرحم الى حفظ جانبه وصيانته من وقوع الشر والضرر في نفسه وماله يدل على أنّ المراد بالقول هو القول الذي يمكن ان يترتب عليه انتفاع الغير او تضرره، كما أنّ ذكر العدل في القول يؤيد ذلك، ويدل على أنّ هناك ظلماً، وأنّ القول متعلق ببعض الحقوق كالشهادة والقضاء والفتوى ونحو ذلك.
فالمعنى: وراقبوا اقوالكم التي فيها نفع او ضرر للناس واعدلوا فيها، ولا يحملنكم رحمة او رأفة او أي عاطفة على أن تراعوا جانب احد فتحرفوا الكلام، وتتجاوزوا الحق فتشهدوا او تقضوا بما فيه رعاية لجانب من تحبونه، وابطال حق من تكرهونه.
قال في مجمع البيان: «وهذا من الاوامر البليغة التي يدخل فيها مع قلة حروفها الأقارير والشهادات والوصايا والفتاوى والقضايا والاحكام والمذاهب والامر بالمعروف والنهي عن المنكر.»
ويقول الفخر الرازي: واعلم أنّ هذا ايضا من الامور الخفية التي اوجب الله تعالى فيها أداء الأمانة، والمفسرون حملوه على أداء الشهادة فقط، والامر والنهي فقط، قال القاضي: وليس الامر كذلك بل يدخل فيه كل ما يتصل بالقول، فيدخل فيه ما يقول المرء في الدعوة الى الدين وتقرير الدلائل عليه بأن يذكر الدليل ملخصا عن الحشو والزيادة بالفاظ مفهومة معتادة قريبة من الافهام، ويدخل فيه أن يكون الامر بالمعروف والنهي عن المنكر واقعا على وجه العدل من غير زيادة في الايذاء والايحاش ونقصان عن القدر الواجب، ويدخل فيه الحكايات التي يذكرها الرجل حتى لا يزيد فيها ولا ينقص عنها، ومن جملتها تبليغ الرسالات الى الناس، فانه يجب أن يؤديها من غير زيادة ولا نقصان، ويدخل فيه حكم الحاكم بالقول، ثم إنّه تعالى يبيّن أنه يجب أن يسوي فيه بين القريب والبعيد، لانه لما كان المقصود منه طلب رضوان الله تعالى لم يختلف ذلك بالقريب والبعيد.
ولابد أن نؤكد مسألة لا تقل أهميتها عن سابقاتها، وهو أنّ قوله «واذا قلتم فاعدلوا» لا يتخطى قضية يعيش محنتها الجميع ويشهدها بترقب وحذر وهي محاولات التحقيقات التاريخية التي اخذت قسطاً وافراً من جهود المحققين، وفي نفس الوقت اشغلت الامة بمحاولات عقيمة، نبع من وضع سياسي متشنج. فالمؤرخ بالرغم من قناعاته بقضايا تاريخية تكاد تكون متوتّرة إلّا أنّها تختفي خلف تجنبات البعض وتزييف الحقائق التاريخية التي حاول بعضهم مصادرتها من تحريف الاقوال وتحريف المفاهيم حتى غدا المؤرخ تتلاعب به الأهواء والسلطة كيفما جرت، والآية تشير الى هذه المشكلة موصية «واذا قلتم فاعدلوا» فهو شعار التحقيق الموضوعي الصادق انه دعوة الى كل مصاديق الأمانة والصدق والانصاف.
المبحث الرابع: الوصايا الروحية
وأخيراً تعرج الآيات المتعلقة بالوصايا الى الساحة الروحية للانسان لتذكره باصله السماوي الإلهي ومواعيده ومواثيقه التي اخذها الله منه في خلقته وفطرته. وهما وصيتان جامعتان لكل ما سبقهما من الوصايا.
اولاً: الوفاء بعهد الله وثانياً: اتباع صراطه والسبيل المؤدي اليه تعالى: {وَبِعَهْدِ اللّهِ اوفُواْ ذَلِكمْ وَصَّاكم بِهِ لَعَلَّكمْ تَذَكرُونَ (152) وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكمْ وَصَّاكم بِهِ لَعَلَّكمْ تَتَّقُونَ}
فالإسلام هو أن تكون الهداية لله تعالى سبيلا يتآلف الناس حوله ويمنعهم من التفرق، فالسبيل هو دين الله ووصفه بالاستقامة كونه مناسباً للفطرة والعقل لذا فاختيار غير هذا السبيل يعني اختيار ما يخالف الفطرة والعقل الانساني.
روى السيوطي ما رفعه الى ابن مسعود قال: خطّ رسول الله | بيده، ثم قال: «هذا سبيل الله مستقيماً» ثم خطّ خطوطاً عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال: «وهذه السبل ليس منه سبيل إلّا عليه شيطان يدعوا اليه» ثم قرأ: «وان هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله».
ثم إنّ ترتيب هذه الوصايا لتكون الوصية العاشرة بالتأكيد على الصراط المستقيم كون المواظبة على هذه الوصايا هي من مقتضيات الاستقامة وإنّها من محفزات الحفاظ على الدين القيم الذي اوصى به الله سبحانه. كما أنّ الضعف والانحلال الذي يصيب الامة هو لتعدد الاهواء والاتجاهات النافية للاتفاق على طريقة واحدة توجب التشتت والتشرذم الذي ينقل كامل الامة فيمزقها ويحرمها من سعادتها. ولا بد أن نشير الى أنّ الاسلام لما كان حريصاً على توحد الامة في منهجها وعدم تفرقها بعد ان يسعى النبي | الى تعيين النقطة الدالة لاسباب هذه الاستقامة وتشخيص المسلك الصحيح الذي يرجى اتّباعه وتعيين الشخصية التي يمكن ان تذلل مصاعب الاتباع وتلبي طموحات المسلم الذي يسعى لانجاز مهمته العبادية بأحسن وجه، وقد فعل النبي | كل ما في وسعه لتحقيق المسار الموحد والمنهج الذي لا يشذ فأشار الى شخصية يدور معها الحق حيث دار تنقذ الأمة من التشرذم والمنهج من التشظي لولا السياسة وتزاحم الأهواء في نفوس البعض.
المبحث الخامس: مقارنة بين القرآن الكريم والعهدين
قال النبي |: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله فإن كان حقا لم تكذبوهم وإن كان باطلا لم تصدقوهم» وفي رواية أخرى عنه |: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وبكتبه ورسله، فان قالوا باطلا لم تصدقوهم، وإن قالوا حقا لم تكذبوهم» وفي ضوء هذا فأن موقف الإسلام من إخبارات أهل الكتاب في العهدين او في غيرهما بأخذ ثلاثة أحكام:
بعد هذا نقول:
الخاتمة
من خلال ما استعرضنا في بحثنا هذا عن الوصايا العشر في القرآن الكريم والعهدين توصّلنا الى بعض النتائج التي يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
1. تعتبر الوصايا العشر هي اول ما نزل على الكليم موسى × من شريعته بعد خروجه من مصر، وقد اوحاها الله تعالى اليه بعد ان دعاه الى ميقاته في جبل سيناء، وكانت الوصايا مكتوبة على الألواح وبإصبع الله حسب نقل العهد القديم.
2. لقد وقعت توجيهات لفهم نصوص الوصايا العشر في سفر التثنية لانها تختلف اختلافا كثيرا عما جاء في سفر الخروج ومن امثلة هذا هو التنزية وعدم التمثيل لله الذي يخالف التجسيم في سفر الخروج وكذلك وضع المرأة وبر الوالدين الذي سبق تفصيله في صلب الرسالة. وتعتبر هذه الوصايا في اليهودية اساساً لتعاليم موسى ×، ولها مكانتها المميزة عندهم فيهتمون بها ويراعونها ويطبقون احكامها باعتبارها الوصايا المقدسة التي نزلت عليهم من قبل الله لشعبه المختار، وهي بمثابة الرأس من الجسد بالنسبة لتعاليم موسى الأخرى وشريعته.
3. اعطي العهد الجديد مفاهيم واسعة وجديدة لوصايا العشر ونظر الى بعضها كتقديس يوم السبت بمنظور خاص ولقد شدد المسيح في تعاليمه ومواعظه على ضرورة حفظ الشريعة وعدم تركها او أهمالها بأي نحو كان، وقد هدد من ترك اصغر حكم من تعاليم الشريعة وعلم الاخرين ذلك بأشد العذاب، كما أكد على الشريعة الموسوية في الكثير من ممارساته وأقواله، وأولى إهتماماً خاصاً للوصايا العشر، ولكنه مع هذا فقد اعطاها بعداً معنوياً وروحياً اخر، وعمق مفهومها، فالقاتل يستحق الحكم والقصاص في الوصايا العشر بينما في تعاليم عيسى × من غضب على اخيه فهو يستحق الحكم، والقسم والحلف باسم الله باطلاً هو المنهي عنه في وصايا موسى، في حين نهى المسيح عن القسم والحلف بشكل مطلق لأنه من عمل الشيطان وأن لا يخرج كلام الانسان المؤمن عن نعم او لا، كذلك بخصوص حرمة الزنا فقد وسع معناها وجعل النظر الى امرأة بشهوة من مصاديق زنا القلب وهو ايضا يستحق العقوبة وغير ذلك، ولكن الكنيسة بعد المسيح حذفت بعض تلك الوصايا لمخالفتها لتعاليمها، مثلا تم حذف الوصية الثانية وهي التي تحرم صنع التماثيل والصور والسجود لها، لان الكنيسة الكاثوليكية على وجه التحديد بخلاف البروتستانت تعتبر صنع التماثيل للمسيح وامه والقديسين تقديساً لهم امراً واجباً، ولهذا اضطرت الى حذف الوصية الثانية وقسمت الوصية العاشرة الى قسمين لتحافظ على عدد الوصايا العشر، وكذلك تم إبدال يوم السبت والذي هو وارد في الوصايا العشر بشكل صريح بيوم الأحد باعتباره يوم قيامة المسيح من القبر حسب أناجيل العهد الجديد.
4. لقد اتضح من المقارنة بين العهدين والقرآن الكريم ان تحديد الوصايا بعشر في القرآن لا دليل عليه حيث ما ورد في القرآن من وصايا يفوق هذا بكثير حيث اننا نشاهد بوضوح ان دائرة الوصايا القرآنية تتخذ حالة الاتساع والشمولية للمنحى الاخلاقي الانساني بكل تفاصيله، وان شمولية الاسلام وتماميته احد اسباب هذه السعة الاخلاقية للوصايا؛ واذا اردنا المقارنة بين ما ورد في الكتابين المقدسين مع ما ورد في القرآن الكريم، سنواجه دائرة فائقة الشمولية في هذا البرنامج الاخلاقي الذي لا يقتصر على عدد من الوصايا، بل إن الخطاب القرآني بشموليته الواسعة يعم حالة اخلاقية عامة يحاول من خلالها معالجة المشكلة الاجتماعية بكل جذورها. وتتطابق بعض الوصايا الاخلاقية التي ذكرت في القرآن الكريم مع الوصايا العشر بشكل كبير مع وجود بعض الاختلافات فيما بينها.
5. تشترك الرسالات السماوية الثلاث وكتبها «القرآن الكريم والعهد القديم "التوراة" والعهد الجديد "الإنجيل"» في خطوطها العامة على اهمية التعاليم التربوية والاخلاقية في تهذيب روح الانسان وايصاله الى كماله المنشود، وان كانت تتقاطع احيانا في بعض الامور العقدية المهمة من قبيل اعطاء صبغة الالوهية لبعض الشخصيات وهو مانهى عنه القرآن الكريم بشكل مطلق وحصر الالوهية بالله تعالى وحده جل اسمه، وايضاً هناك اختلاف في بعض الجزئيات من هذه التعاليم من حيث العمق والشمولية، ومع هذا يمكن القول انها تشترك بشكل كبير في الوصايا الاخلاقية والتربوية التي تنظم حياة الانسان السلوكية وتؤدي بدورها الى ايجاد حالة من الانسجام والوئام ونشر الفضيلة والعدالة في المجتمع.
مصادر البحث